بقلم: د. محمد السعيد إدريس – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – الحرص الشديد الذي أبداه الرئيس الأمريكي جو بايدن وأركان إدارته، بما فيها وزارتا الخارجية والدفاع على التراجع، وربما التبرؤ، من التصريح الذي جاء على لسانه في مؤتمر صحفي في طوكيو بحضور رئيس الحكومة الياباني فوميو كيشيدا، وتعهد فيه بالدفاع عسكرياً عن تايوان في حال إقدام الصين على اجتياحها، يكشف حقيقة شديدة الأهمية تتعلق بمستقبل الصراع على النظام العالمي تقول إن «سياسة الردع الأمريكية تفقد يوماً بعد يوم صدقيتها»، وإن الصين تتقدم خطوات مهمة نحو القمة العالمية، في حين تواجه الزعامة الأمريكية للنظام العالمي «تحديات أفول» لا مناص منها. 24 ساعة فقط، وربما أقل، هي التي فصلت بين تورط بايدن في تهديده للصين وبين التراجع المخجل عن هذا التهديد.
في اليوم التالي مباشرة وبعد انتفاض مراقبين أمريكيين ضد هذا التصريح واعتباره «انحرافاً عن سياسة الغموض الاستراتيجي» التي تتبعها واشنطن حيال الصين، بادر الرئيس الأمريكي نفسه بالقول إن سياسة واشنطن حيال تايوان «لم تتغير». وقبله صرح وزير الدفاع لويد أوستن أن سياسة «الصين الواحدة» لم تتغير، وزاد «وافقنا على سياسة الصين الواحدة، ووقعنا عليها، لكن فكرة أن يتم الاستيلاء على تايوان بالقوة ليست مناسبة، ويمكن أن تتفكك المنطقة برمتها وتكون عملاً مشابهاً لأوكرانيا». أما وزير الخارجية أنتوني بلينكن فقد أكد في خطابه أمام جامعة جورج واشنطن أن بلاده «لا تريد حرباً باردة مع الصين». وفي إشارة إلى قضية تايوان، وفي تعليق غير مباشر على التراجع الأمريكي عن تصريح بايدن، حذر بلينكن من أن «الصين منخرطة في خطاب ونشاط استفزازيين بشكل متزايد بشأن تايوان»، وعبّر عن قلق الولايات المتحدة العميق إزاء أفعال بكين «المزعزعة بشكل عميق والتي تهدد السلام والاستقرار في مضيق تايوان». وقال إن واشنطن «لا تسعى لمنع الصين من القيام بدورها كقوة كبرى، ولا وقف الصين، أو أي دولة، عن تنمية اقتصادها أو النهوض بمصالح شعوبها»، لكنه حذر من تنامي الصداقة الصينية – الروسية وخطرها على مستقبل النظام العالمي. واختتم خطابه ملخصاً الاستراتيجية الأمريكية نحو الصين بالقول «سوف نتنافس مع الصين دفاعاً عن رؤيتنا ومستقبلنا، وسنواجه تلك التحديات اعتماداً على شبكة من العلاقات مع الدول». استراتيجية تكشف حقيقة الوضع الأمريكي الراهن. فما جاء على لسان بلينكن لا يعبّر عن قوة عظمى أحادية تقود العالم باقتدار، لكنها تسعى بالدبلوماسية واعتماداً على حلفاء من الدول وليس على قوتها المنفردة، ومن هنا جاءت سرعة التراجع عن تصريح بايدن وعن تهديد الصين بالقوة العسكرية.
على العكس تماماً جاء رد الفعل الصيني على تهديد بايدن. فقد سخرت القيادة الصينية، عبر المتحدث باسمها، وقالت إنه «يلعب بالنار التي ستحرق أصابعه حتماً»، كما أعربت الصين، بعد ساعات فقط من تصريح بايدن، وعلى لسان وزير خارجيتها، عن استيائها قائلة إنها «لن تسمح لأية قوة خارجية بالتدخل في شؤونها الداخلية (باعتبار أن تايوان قضية داخلية صينية)»، مؤكداً أن الصين «ليس لديها مجال للمساومة أو التنازل على حساب المصالح الأساسية للسيادة ووحدة الأراضي» وحذر الوزير الصيني قائلاً: «لا يجب أن يقلل أي شخص من العزيمة القوية والإرادة الحازمة، والقدرات القوية للشعب الصيني». أما المتحدث باسم الخارجية الصينية فقد طالب بـ «توخي الحذر في الأفعال والأقوال بشأن قضية تايوان، وعدم إرسال أي إشارة خاطئة إلى القوى الانفصالية المؤيدة لتايوان، حتى لا يتسبب ذلك في أضرار جسيمة للوضع عبر مضيق تايوان والعلاقات الصينية – الأمريكية».
اللافت أيضاً، بهذا الخصوص، أنه في الوقت الذي كانت تعقد فيه قمة لقادة «التحالف الرباعي» (كواد) الذي يضم الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند في طوكيو، أكدت وزارة الدفاع الروسية إجراء تدريبات مشتركة مع الصين استمرت 13 ساعة فوق بحر اليابان وبحر الصين الشرقي، وشاركت فيها قاذفات استراتيجية روسية وأخرى صينية. وذكر وزير الدفاع الياباني نوبو كيشي أن الطائرات الصينية والروسية نفذت طلعات مشتركة تزامناً مع انعقاد قمة «كواد» في طوكيو، وقال كيشي إن طوكيو أبلغت موسكو وبكين بـ«قلقها البالغ» إزاء تلك الطلعات.
المقارنة البسيطة بين خطاب الردع الأمريكي الذي ورد على لسان الرئيس الأمريكي، على استحياء، وتم التراجع عنه، وبين خطاب الردع الصيني قولاً وعملاً، يؤكد مدى اتساع فجوة الصدقية بين الخطاب بكل ما يعنيه ذلك من مؤشرات مهمة بتوجهات وتطورات مستقبلية للنظام العالمي.