بقلم: عمّار الجندي – النهار العربي
الشرق اليوم – تكهن ماكس هاستينغز، 77 عاماً، في حزيران (يونيو) 2019 بأن وصول مرؤوسه السابق بوريس جونسون الوشيك إلى “عشرة داونينغ ستريت” (مقر رئاسة الحكومة البريطانية)، سيكون كارثياً. قال “الأستاذ”، الذي يعتبر من “نبلاء” الصحافة والمؤرخين العسكريين البريطانيين المرموقين، إن “رئاسته (جونسون) للحكومة ستكشف بالتأكيد تقريباً عن احتقار للقواعد، والسوابق (التصرفات التي يُقاس عليها)، والنظام، والاستقرار”.
ثمة مرارة مشوبة بما يشبه الإحساس بالعار في كتابات هاستينغز عن تربع جونسون على قمة السلطة في بريطانيا. فهو يعرفه منذ ثمانينات القرن الماضي حين رأس تحرير صحيفة “الديلي تلغراف” ووظفه مراسلاً لها من بروكسيل، بعدما ضبطته “التايمز” متلبساً بالكذب وطردته.
وبالفعل، لم يخبْ ظن “الأستاذ”، بتلميذه الذي يعتبره ناجحاً بشكل مذهل فقط في التسلية. فهو لا يكاد يخرج من ورطة تجاوز فيها خطوطاً حمراً حتى يدخل في أخرى، وكلها في الغالب من صنع يديه.
لكنّ أياً كانت اتهامات خصومه، لا يتردد حتى ألدّ أعداء جونسون في الاعتراف بذكائه الحاد، وتصميمه الحديدي، وجرأته النادرة. وتكاد براعاته، ككاتب صحافي مبدع، وفنان في السخرية وماهر في التهكم، تكون موضع إجماع.
ولعل “بارتي غيت” التي تئن بريطانيا، من هول صدمتها وصورها التي تثبت انتهاك رئيس الوزراء أبسط قواعد المواطنة ناهيك بأصول السياسة والحكم، هي حتى الآن أم الفضائح التي كان جونسون بطلها. وكأن سجله الذي يغص بالخيانات الزوجية والتي أثمرت ابنة غير شرعية في الأقل، ومست سمعته المالية أحياناً، لا تكفي.
وجونسون لا يزال، على عادته، يُصرّ كلما افتضح أمر خطأ جسيم ارتكبه، على وضع المشكلة وراء ظهره. وهو يُشهر هذه المرة عذراً قاهراً يعفيه من المسؤولية، كما يظن، إذ يقول إنه يعالج تحديات ترقى الى مستوى “حرب عالمية ثالثة”، ولا يمكنه أن يضيّع الوقت على “ترهات”. لكن المفارقة أن الغالبية الساحقة من البريطانيين، بمن فيهم بعض عتاة الجناح اليميني في حزب المحافظين الحاكم، لم يعودوا قادرين على دعمه بعدما ضرب عرض الحائط بقواعد الإغلاق في ذروة تفشي كوفيد 19.
وهناك ما يكفي من المبررات للتشكيك في أن انهماكه في الأزمة الأوكرانية التي تحدّث عنها فأرغى وأزبد، ووعد بأكثر بكثير مما فعل على الأرض، يهدف بشكل أساسي إلى حرف الانتباه عن فضيحة “بارتي غيت”. واللافت أن المكونات الأساسية لشخصية هذا “المهرج” على حد تعبير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تتجلى في تعامله مع الأزمة الأوكرانية. فهي أتاحت له الظهور بمظهر الرجل القوي الذي يتصدى لقوة عظمى، وصاحب الإنجازات التي لا يكف عن التباهي بها، ويرسم لها صورة متخيلة تطمس عيوبها وتضخّم إيجابياتها. وإن لم توفر له الأزمة فرصة مباشرة لإبراز “سياديته” التي سلّط عليها الضوء في شعاره “استعيدوا السيطرة” (على بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، فالدفاع عن بلاد تتعرض لغزو أجنبي هو ذروة السيادية.
ترسم صفات جونسون وسيرته نموذجاً يجمع بين فضائحية سيلفيو بيرلسكوني، رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق القوي الذي كان يعد الناخبين الإيطاليين بأنه يحمل الشمس في جيبه، وشعبوية دونالد ترامب القوي “السيادي” الحريص على جعل أميركا “عظيمة من جديد”، وآخرين مثل الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي.
وأوكرانيا ليست أولى “ذرائعه” ولن تكون الأخيرة. ثمة سوابق تفيد باستعداده لاستغلال أي شيء من أجل مصلحته وتلميع صورته، في طليعتها البريكست (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي). كان جونسون يؤيد سابقاً بقوة بقاء بلاده في الاتحاد الأوروبي. لكن حين بدأ يرى معاداة الاتحاد جناحاً يحمله إلى رئاسة الوزراء، نقل البندقية من كتف إلى آخر. وقاد حملة ضده قبيل استفتاء 2016، كانت مجافاة الحقيقة أنجع أسلحتها. يتجلى هذا في تبنيه عبارة شهيرة لا أساس لها من الصحة، تزعم أن مغادرة الاتحاد ستوفر على بريطانيا 350 مليون جنيه اسبوعياً.
وتكاد لا تصدق أن شخصاً كهذا يمسك بمقاليد الحكم في لندن حين تقرأ عن “أكاذيبه”، التي جمعها الصحافي المعروف بيتر أوبورن في كتاب عنونه “الهجوم على الحقيقة: بوريس جونسون ودونالد ترامب وظهور البربرية الاخلاقية الحديثة”، والذي يقول إنه وثق فيه 500 من “أكاذيب” رئيس الوزراء لكن العدد آخذ بالارتفاع.
لكن، ماذا تقول سيرة هذا الرجل عن بلاده وعن الديموقراطية نفسها التي يرى البعض أنها أشبه بـ “رجل مريض” لا حول له ولا قوة، في بريطانيا والغرب؟.
لعل ولاية جونسون ستقصّر عمر “مملكة متحدة”. فقد تنامى الشعور القومي الإنكليزي جرّاء التحريض ضد الأوروبيين منذ 2015 الذي قاده هو وأنصار البريكست، واستهداف المهاجرين من قبل حكومته، علاوة على الإساءات الى الأقليات بمن فيها المسلمون التي وجه بعض أشهرها هذا الزعيم الذي تجري في عروقه دماء تركية وكان علي كمال، جده الأكبر، وزير داخلية للسلطنة العثمانية في عام 1919. وفي المقابل، ها هي إيرلندا الشمالية تبتعد تدريجياً من المملكة بفضل البريكست، كما يتضاعف نفوذ الحزب القومي الاسكتلندي وحماسته لتحقيق الاستقلال عن بريطانيا.
ويترافق هذا التفكك للمملكة المتحدة مع اضمحلال تدريجي لديموقراطيتها، على طريقة هنغاريا في ظل فيكتور أوربان وبولندا بقيادة حزب “القانون والعدالة” ورئيس الوزراء ماتيوش مورافيتسكي. وحفلت الصحافة البريطانية في الأيام القليلة الماضية بصخب التقارير عن محاولات جونسون التدخل في التحقيق الذي أجرته الموظفة الرفيعة سو غراي حول ملابسات “بارتي غيت”، ومنعها من الوصول إلى كل الأدلة والمعلومات حول حفلات “10 داونينغ ستريت”، وعن تغيير القانون الوزاري بحيث لا يؤدي الكذب على البرلمان، وهي مخالفة اتهم بها جونسون أكثر من مرة، الى إقالة الوزير. وبعيداً من الفضيحة الأخيرة، يتعرض القضاء والإعلام إلى هجوم شرس بصورة ممنهجة في عهد جونسون، من أجل القضاء على إمكان المساءلة، الصعبة أصلاً في مناخ تبدو الحقيقة فيه صعبة المنال.
ولهذا اعتبر اللورد ديفيد نيوبيرغر، رئيس محكمة الاستئناف الأسبق، أن بريطانيا تتحول بخطوات متسارعة إلى “ديكتاتورية ” أو “دولة استبدادية”. فهل تصحّ قراءته لواقع البلاد كما صحّت تنبؤات هاستينغز؟