بقلم: سالم الكتبي – صحيفة “إيلاف”
الشرق اليوم – تتداول الأوساط السياسية البحثية و الإعلامية في الآونة الأخيرة فرضيات حول جدوى إحياء الإتفاق النووي الإيراني الموقع عام 2015، وهل يصب ذلك في مصلحة الأمن والاستقرار الإقليمي، أم أنه يوفر غطاء لتطوير القدرات النووية الإيرانية وتوفير هامش حركة أكبر لسياسات الهيمنة والتوسع الإيرانية؟ وقد تباينت الآراء في الولايات المتحدة وغيرها من الدول والأطراف المعنية بين معارض لإحياء الإتفاق ومؤيد له، ومؤخراً، نشرت صحيفة “جيروزاليم بوست” تقريراً بعنوان “غياب الإتفاق النووي مع إيران يفرض مخاطر على إسرائيل”، نقلت فيه عن مصادر استخباراتية قولها إن عدم التوصل لإتفاق نووي مع إيران قد يفرض خطراً نووياً وشيكاً على إسرائيل، وأن تبعات عدم إبرام إتفاق تبدو أسوأ من التوصل لإتفاق سيء، إذ أن إيران قد تكون قادرة على إنتاج أربعة قنابل نووية إذا فشلت جهود التوصل لإتفاق معها.
واقعيًا فإن هذا التقدير قد يكون له ما يبرره تحليلياً، على الأقل من زاوية الإقرار بأننا نفاضل بين سيء وأسوأ، ولكن أي قياس مواز على آثار الفترة التي كان فيها الاتفاق الأصلي الموقع عام 2015 سارياً، وقبل انسحاب إدارة الرئيس السابق ترامب منه في عام 2018، تؤكد كذلك أن التهديد الإيراني له أوجه متعددة ولا يقتصر على خطر “القنبلة النووية”، التي تمثل تهديداً كارثياً لا يمكن التهوين منه حال حدوثه، ولكن لا يمكن كذلك التهوين من أنماط التهديد الإيراني الأخرى، وفي مقدمتها تمويل وتسليح الميلشيات الإرهابية المنتشرة في مناطق مختلفة بالشرق الأوسط مثل اليمن ولبنان وسوريا والعراق، وهي برأيي التهديد “الواقعي” الأكثر التصاقاً وتأثيراً في الأمن الإقليمي كونه التهديد الحاصل فعلياً، والجاهز للإستخدام والتوجيه ضد دول المنطقة ومصالحها.
من هنا لا يجب حصر التهديد الإيراني في الشق النووي، باعتباره ذروة الخطر المحتمل، كما لا يفترض الإستسلام لإختيار السىء بدعوى أننا نتفادى الأسوأ، فالسيء ليس قدرنا في هذه المنطقة الملتهبة من العالم، والأسوأ لا يجب أن يكون “الفزاعة” التي تخيف طهران العالم بها، لاسيما أن المحصلة الحقيقية تشير إلى أن الخطر الإيراني لم ينتهي بعد إتفاق عام 2015، بل تباطىء قليلاً، وأن المزيد من التأخير عبر التوصل الى تفاهمات جديدة لا يعني أننا بمنأى عن الخطر، بل فقط باعدنا المسافة الزمنية بيننا وبينه!
أدرك أن المشكلة الحقيقية هي في بذور وجوهر “خطة العمل المشتركة” التي تجاهلت معالجة الملف الإيراني من مختلف جوانبه، وبنفس القدر تجاهلت وجهات نظر دول الجوار الإيراني، وما تستشعره من تهديد لا يقتصر على الجانب النووي، ولكن لا يجب التعامل مع المسألة باعتبارها قدراً محتوماً، فهذا الإتفاق المعيب الملىء بالثغرات لا يجب أن يكون الخيار الأوحد للمنطقة والعالم، كما أن إحيائه ليس إنجازا سوى للجانب الإيراني، أو لمن يبحث عن تأجيل للخطر والتهديد وترحيله لأجيالنا المقبلة في المنطقة!
اختيار السيء من باب المفاضلة مع الأسوأ أمر ربما يتعلق بتقدير واقعي ـ بحسب ما قد يرى أصحابه ـ للموقف المعقد في فيينا، ولكننا نرى أنه باتفاق أو بدون اتفاق ليست هناك أي قدرة دولية حقيقية للسيطرة على تطور البرنامج النووي الإيراني في ظل التكتم والمراوغات والسرية التي تنتهجها إيران، التي تعترف علناً بأنها تقوم بتخصيب اليورانيوم بنسبة 60% خلال فترات تجميد الإتفاق، ما يعني ـ نظرياً ـ أن بلوغ سقف الـ 90% لتخصيب اليورانيوم (النسبة المؤهلة لإنتاج سلاح نووي) لا يحتاج سوى قرار سياسي إن استبعدنا مراكمة الكميات اللازمة لذلك فعلياً!
المعضلة في الملف الإيراني تكمن في حصره في الزاوية النووية، علماً بأن الخطر لا يقتصر فقط على الطموح النووي بل على نوايا توظيفه من جهة، وعلى مجمل المشروع الإيراني، الذي تعد القدرات النووي أحد أدواته من جهة ثانية. وهنا يجب أن نتذكر أن أحد أخطاء “خطة العمل المشتركة” الموقعة عام 2015، أنها تحصر الملف الإيراني في الشق النووي ولا تتطرق لخطر البرنامج الصاروخي ولا مجمل السياسات التوسعية المهيمنة والنفوذ الإقليمي الإيراني، ناهيك عما طرأ مؤخراً من برامج للطائرات المسيرّة التي توزع بالمجان على الميلشيات الطائفية، ويعلم الكل كيف تحولت إلى أخطر تهديد للمنشآت النفطية والمصالح الإستراتيجية في دول المنطقة.
قد يقول أحدهم أن إحياء الإتفاق النووي هو الفعل “الممكن” دبلوماسياً في ظل المعطيات القائمة، وهذا قد يكون صحيحاً نظرياً، ولكن يجب الإعتراف بالمقابل بأن هذه المعطيات قد تبلورت جراء عدم إمتلاك الطرف الأساسي الآخر في الإتفاق، الولايات المتحدة، لأي أوراق ضغط حقيقية، بل إنه يزيد الطين بلة حين يصر على إختزال أي ردة فعل محتملة لفشل مفاوضات فيينا في دائرة العمل الدبلوماسي دون الذهاب لمجرد التلويح بأي عصا مؤثرة كانت أو غير مؤثرة! حيث يردد المسؤولون الأمريكيون مراراً وتكراراً أن “جميع الخيارات مطروحة”، ولكنهم يستثنون منها العمل العسكري الذي لا يدعمه الرئيس بايدن، كونه لن يؤدي سوى إلى “تراجع” برنامج إيران النووي، وكأن إحياء الإتفاق سيؤدي إلى نتائج مغايرة!
يعرف الجميع أن سلوك الولايات المتحدة حيال إيران محكوم بإخفاقات التدخلات العسكرية الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط، ولا أحد بالفعل يطالب بهذه التدخلات ولا أحد يتمناها، ولكن المٌعضلة تبقى في إظهار العجز الإستراتيجي، وغياب البدائل أمام طرف لا يجيد ماهو أكثر من المراوغة والمناورة وكسب الوقت.
المحصلة فيما سبق أن المفاضلة بين السيء والأسوأ ستنتهي بمنطقتنا إلى الأسوأ، لأن “السيء” لن ينتج سوى المزيد من الأموال وحرية الحركة والمزيد من التغول والتوسع وبسط النفوذ الإيراني، ببساطة، سيعيدنا إلى أجواء الحقبة ما بين 2015 ـ 2018، التي نرى نتائجها الآن في العراق وسوريا ولبنان!