بقلم: صابر بليدي – العرب اللندنية
الشرق اليوم – تحيط الدوائر السياسية والإعلامية المقرّبة من السلطة العلاقات الجزائرية مع الصين وتركيا بهالة من التبجيل، وتربطها دوما بأوراق تاريخية وأخرى أيديولوجية، على عكس العلاقات الإقليمية والدولية الأخرى، لاسيما تلك التي يخيّم عليها التذبذب والارتباك، كما هو الشأن بالنسبة إلى فرنسا ومؤخرا مع إسبانيا إلى جانب بعض دول الجوار.
وإذ تبقى أنقرة وبكين تمثلان ملاذا للسلطات الجزائرية لكسر عزلتها الدبلوماسية كلما ضاق عليها الحبل، كونهما ربما العاصمتين الوحيدتين اللتين لا تساءلان عن المسائل السياسية والحقوقية الداخلية وفق التقاليد التي تسنّها الديمقراطيات الغربية، فإن ذلك لا يخفي مساعي الجزائر للاستفادة من مخططات التمدد التي تخوضها الصين وتركيا للتغلغل في عمق القارة السمراء، وعرض خدماتها كبلد استراتيجي في المنطقة لإحداث تكامل وبناء مصالح مشتركة معهما.
وظلت الصين طيلة السنوات الماضية تحتل مرتبة الشريك الأول للجزائر في مجال التبادل التجاري، إلى أن جاءت الجائحة العالمية التي قفزت بالمبادلات التجارية مع تركيا إلى الصدارة، بعد ارتفاعها بأكثر من 30 في المئة، بعد توجه المتعاملين المحليين إلى أنقرة أكثر من بكين بسبب تكاليف الشحن والوباء.
ومع ذلك تحتفظ كل من الصين وتركيا في علاقاتهما مع الجزائر ومع غيرها من دول المنطقة والقارة السمراء عموما بخصوصيات معيّنة، ففيما تعتمد الأولى على التغلغل الناعم عبر بوابة الشراكات والاستثمارات الاقتصادية والتجارية، دون إيلاء المسائل الأخرى أي أهمية، فإن الثانية تزاوج بين مصالحها الاستراتيجية وعلاقاتها الثنائية والجماعية، وبين حلم إحياء المجد العثماني على أنقاض التاريخ والتراث.
كلا البلدين استفادا من فرص استثمارية ضخمة خلال العقود الماضية، ومرشح للاستحواذ على فرص أخرى. فقد أبرمت الجزائر وتركيا 15 اتفاقا بمناسبة زيارة الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون الأخيرة إلى تركيا، وأبرمت اتفاقا آخر ضخما أيضا مع الصين بكلفة سبعة مليارات دولار لاستغلال منجم غار جبيلات للفوسفات والحديد بأقصى الجنوب الغربي.
لكن اللافت أن عين تركيا في علاقاتها مع الجزائر تركز أيضا على الجوانب الثقافية والحضارية والتاريخية، ولذلك كانت مسألة المعاهد والمدارس من ضمن الاتفاقيات المبرمة، وهو ما يبرز الأهمية التي توليها أنقرة في فتوحاتها الجديدة للبعد الأيديولوجي العثماني، بينما تغيب الجانب الثقافي في التعاون الاقتصادي والتجاري القائم بين الجزائر والصين. وحتى تعلّم اللغة الصينية الذي أصبح ضرورة لبعض الجزائريين لتسهيل التواصل مع الشريك العالمي، اقتصر انتشارها الذي بدأ يتوسع تدريجيا عبر مدارس خاصة لا تربطها علاقة مباشرة بنشاط السفارة أو الدوائر الدبلوماسية الصينية، حرصا على بقائها بعيدة عن أي تأويلات أيديولوجية.
وحتى عندما كانت الهدايا تغدق على الجزائر، خلال العقدين الماضيين كرد جميل للفرص الاستثمارية الضخمة التي حظيت بها الصين وتركيا، فإن هدية بكين كانت تشييد مركز للمؤتمرات بمقاييس عصرية في الضاحية الغربية للعاصمة، بينما كانت هدية أنقرة منحا مالية لترميم وتأهيل بعض المعالم التاريخية الموروثة عن العهد العثماني في الجزائر، على غرار جامع كتشاوة وبعض الأبراج التاريخية في مدن ومحافظات جزائرية. ولم تتوان تركيا في التعبير عن استعدادها للتكفل بتأهيل حي القصبة التاريخي في وسط العاصمة الجزائر.
ومن نوع تلك الهدايا يمكن أن يستشف المتابع الدلالات التي يحملها كلا الطرفين في تطوير علاقاتهما مع الجزائر. فالصين التي ساندت ثورة التحرير الجزائرية، لا تسوق في خطاباتها موقفها التاريخي، بقدر ما تعتمد على المصالح الاقتصادية والتجارية الناعمة، وظلت تحتفظ لنفسها بموقفها بما يثار هنا وهناك حول الأوضاع السياسية والحقوقية الداخلية للبلاد.
ولو اشتركت في ذلك مع تركيا، التي لا تتجاهل كلية الأصوات الداخلية المعارضة للسلطة الجزائرية، ولم تتوان في تسليمها مطلوبين لها كانوا يقيمون على ترابها، حتى دون وجود اتفاق قضائي بين البلدين، فإن رد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على سؤال صحافي طرح عليه عندما زار الجزائر في العام 2016، كان ينطوي على موقف تاريخي مؤدلج، حيث قال “العثمانيون لم يتركوا لغتهم في الجزائر”. في إشارة منه إلى الموروث اللغوي والثقافي الذي تركته فرنسا الاستعمارية في الجزائر. ولم يتوقف الخطاب السياسي والإعلامي في تركيا عن تصفية خلافاته مع فرنسا عبر التذكير بالماضي الاستعماري الفرنسي في الجزائر.
وفي سجالات التنافر الأيديولوجي الداخلي، يظهر مصطلح “الجالية التركية” الذي تطلقه الدوائر العلمانية الرافضة للتقارب بين بلادها وتركيا، على القوى الإسلامية والمحافظة المتحمسة للتقارب المذكور، والرافضة بدورها لأي تقارب أو تنازل يقدّم للغرب بشكل عام. وتظهر جماعة الإخوان في طليعة تلك الصفوف، فهي ترى في الرئيس أردوغان نموذجا مثاليا للزعامة وفي تركيا نموذجا للبلاد التي يحلم الإخوان بها. وكان دفاع الرجل الأول في أكبر الأحزاب الإخوانية (حركة مجتمع السلم) عبدالرزاق مقري عن علاقات الجزائر مع تركيا وعن أردوغان، صريحا لدرجة الولاء.
رائحة الأيديولوجيا في علاقات تركيا مع الجزائر غير مخفية وتسير بشكل صريح ومتواز مع الملفات الأخرى، لأن الأمر لم يقتصر على تأهيل المعالم التاريخية وترميمها، بل امتد إلى جمعيات ومدارس ومساعدات اجتماعية، وحتى تعاون فني وسينمائي لإحياء “أمجاد” قادة عثمانيين مروا على الجزائر.
لكن، لا شيء من هذا القبيل يطرح على صعيد العلاقات الجزائرية – الصينية، حيث تتفرّغ بكين إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري، لقناعة لدى قيادتها السياسية بأن اللعب على أوتار الأيديولوجيا لا يؤمّن لها ذلك، لأنه في الغالب يكون معارضا لحضورها، وأن النفوذ الناجع هو الذي يتحقق عبر الآليات الناعمة.
ومن هنا تبدو الرؤية مختلفة تماما بين الطرفين، فبينما تكون المواقف السياسية قليلة التقاطع مع بكين، وفي الغالب لا تسجل إلا في بعض الملفات الدولية عندما تطرح على الهيئات الدولية والمجتمع الدولي، يبدو أن نقاط التقاطع تكون كثيرة مع أنقرة، وقد يكون العامل الجغرافي المسلح بالأفكار السياسية حاسما في ذلك، حيث عادة ما تحضر الملفات الإقليمية بقوة مع تركيا، كما هو الشأن في ليبيا والساحل والشرق الأوسط، خاصة قبل أن تكسّر تركيا عزلتها مع منطقة الخليج العربي وإسرائيل.