بقلم: داود الفرحان – الشرق الأوسط
الشرق اليوم – لاحظ العسكريون بوجه خاص أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تجنب الإعلان مقدماً عن نيته شن حرب واسعة على أوكرانيا. وكان بوتين ورجاله السياسيون والعسكريون ينفون باستمرار الاتهامات الأميركية وقرائن حلف شمال الأطلسي عن حشود روسية على الحدود مع أوكرانيا لإسقاط نظامها السياسي، واستقطاع أكثر من مقاطعة من حدودها الشرقية والجنوبية. وذهب الروس إلى أن الاتهامات الأميركية لا أساس لها، وأن الرئيس الأميركي جو بايدن يردّد إشاعات مغرضة عن نية روسية «شريرة» ضد كييف. واستمر هذا إلى أن دقت ساعة الصفر يوم 24 فبراير (شباط) الماضي حين عبرت الدبابات الروسية وناقلات الجنود الحدود الروسية – الأوكرانية، وانهالت الصواريخ والقصف المدفعي والجوي على العاصمة كييف والمطارات والمصانع والمعسكرات. ومرة أخرى تجنب بوتين تسمية ما حصل في 24 فبراير بداية حرب عسكرية واسعة، واستعاض عن ذلك بإطلاق تسمية «عملية عسكرية خاصة»، بما قد يخدع الطرف الآخر من الجبهة أنها «حرب محدودة»… ولا داعي للقلق!
وفي الأسبوع الثاني للحرب التي دخلت الآن شهرها الرابع بلا هوادة، أطلق الناطق باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف تصريحاً «مُخدراً» بأن الكرملين يُرجح التوصل إلى «نهاية قريبة» للقتال، سواء عن طريق إنجاز أهداف العملية العسكرية، أو من خلال التوصل إلى اتفاق سياسي مع كييف. وبدلاً من تراخي العنف كما يُفترض، بعد أن صرح بيسكوف «أن العملية العسكرية في أوكرانيا قد تنتهي في الأيام القريبة المقبلة، إذا حققت أهدافها المرسومة، أو بالتوصل إلى اتفاق عبر المفاوضات.
حتى الآن سيطر الروس على المدن والقرى الحدودية التي تقيم فيها أقليات روسية في إقليم دونباس واحتلوا ميناء أوكرانيا الأول ماريوبول واضطر كثير من الأوكرانيين إلى اللجوء إلى دول أخرى.
وقبل أن ينتهي الأسبوع الثاني من الحرب كانت روسيا تتحدث عن تدمير 97 مروحية و421 طائرة مسيرة و228 منظومة دفاع جوي صاروخية ومدرعة و223 راجمة صواريخ و874 مدفعاً ومدفع هاون بالإضافة إلى 1917 مركبة عسكرية خاصة.
لا أعتقد أن الرئيس بوتين يرضيه أن يقول أحد عنه إنه يحاول السير على خطى المستعمرين الغربيين من الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين والبلجيكيين والإسبان والبرتغاليين أو المستعمرين الشرقيين مثل الهنود والأتراك والفرس واليابانيين، أو حتى الإسرائيليين الذين احتلوا فلسطين في عام 1948، والأميركيين الذين احتلوا العراق في 2003.
وفي تاريخ الحروب نذكر أن العراق عانى من ثلاث حروب طاحنة منذ عام 1980 إلى عام 2003 مروراً بـ1991 ولا نريد أن نتذكرها ولا نستطيع أن ننساها، ونعرف جيداً آلام الحرب والنعوش والدمار والحصار الظالم والغربة لمن آثر الرحيل إلى أرض الله الواسعة.
وإذا كان الرئيس الأوكراني زيلينسكي تمكن من الفوز بتعاطف دولي بسبب أن بلاده ضحية حرب غير متكافئة، فهذا لا يعني أنه على حق بتهديده الاستفزازي لروسيا بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، والتخلي عن حياد أوكرانيا. لكنه على حق في الدفاع عن بلاده المدمرة وشعبه المهاجر؛ فهذه الدولة لم تعد كما كانت قبل الحرب؛ مزدهرة وجميلة وتبحث عن مستقبل آمن. فأوكرانيا قبل 24 فبراير 2022 غيرها بعده. هذه هي الحرب. وهذا هو المثل الثاني بعد العراق والثالث بعد سوريا والرابع بعد أفغانستان. وهو مصير ينتظر إيران الملالي.
تقول الأمثال والحكم: «من لا يستطيع أن يكسب الحرب لا يستطيع كسب السلام». و«الحرب هي أن تلتهم الأرض لحوم البشر». و«الانتصارات الحقيقية والدائمة هي انتصارات السلام وليست انتصارات الحرب». و«الخوف من الحرب أسوأ من الحرب نفسها». و«السياسة حرب باردة، والحرب سياسة ساخنة». و«في الحرب تصمت القوانين». وآخر هذه الحكم بما ينطبق والقضية الأوكرانية: «الحرب لا تحدد من هو صاحب الحق، وإنما تحدد من تبقى».
ضحايا الحرب ليسوا أوكرانيين فقط، لكنهم روس أيضاً. وقبل أيام روت «البي. بي. سي» قصصاً عن أمهات روسيات يحاربن من أجل إنقاذ أولادهن من الحرب. وفي هذا المجال قالت إحدى الأمهات إنها شجعت ولديها على الالتحاق بمعسكرات التدريب الروسية، لأن هذا هو واجبهما تجاه الوطن. لكنها بعد عدة أسابيع ومع اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا بدأت تقلق على ولديها لانقطاع اتصالاتهما بها، وبعد استفسارات كثيرة قال لها مسؤول عسكري إنهما قتلا في الحرب وتم دفنهما! وتقول السيدة: «أمام هذه الإجابة الصاعقة توقف الزمن بي». واتصلت الأم بأمهات تعرفهن فقيل لها إن أولادهن انقطعوا عن الاتصال بهن أيضاً.
المهم عاد الولدان بعد أن أصدر الرئيس الروسي قراراً بعدم إرسال المتدربين الجدد إلى الجبهة، والاقتصار على الجنود المحترفين. وقال الولد الأصغر لأمه: «من الأفضل أن تجهلي ماذا حدث هناك. ما يُعرض في التلفزيون غير ما يحدث في الجبهة». هذه رواية سيدة روسية عن الحرب، فما الذي تقوله الأمهات الأوكرانيات وهن يعشن مع أطفالهن وسط الانفجارات والقصف والخوف؟
ما زال الرئيس الأوكراني يستغيث بالاتحاد الأوروبي وحلف الناتو لنجدته وتزويده بالمساعدات، ويعرض، كأي زعيم منتصر، شروطاً لاستئناف المفاوضات لوقف إطلاق النار، وما زال الروس يلفتون النظر إلى ترسانتهم النووية ليس لشن حرب ذرية، وإنما لتنفيذ «عملية عسكرية خاصة» دخلت شهرها الرابع، وهي مرشحة لامتداد زمني طويل ما دام أمين مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف يرى أن بلاده «لا تسابق الزمن في عمليتها العسكرية، ولسنا في عجلة من أمرنا ولا نطارد المواعيد النهائية».
بدأت «العملية العسكرية الخاصة» باستهداف منطقة دونباس شرقي أوكرانيا، وزحفت إلى العاصمة الأوكرانية كييف وبوتشا وكراما تورسك ومحطات القطارات والمطارات والقواعد الجوية وميناء ماريوبول ومدينة خاركيف ومدن أخرى.
الحل الوحيد هو إيجاد سبيل للتسوية قبل فوات الأوان.