بقلم: حسام ميرو – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – قبل أن يغلق القرن العشرون أبوابه، كان حلف الأطلسي يدشّن أولى موجات توسّعه في أوروبا، في عام 1999، بانضمام المجر وبولندا والتشيك إليه بشكل رسمي، وتلا تلك الموجة موجات أخرى من التوسّع، شملت حوالي 10 دول، كانت ضمن الاتحاد السوفييتي السابق، في عملية تطويق جيواستراتيجي للاتحاد الروسي، وهذه العملية، تبدو من حيث المضمون، كأنها استكمال للحرب الباردة، التي يفترض أنها انتهت عملياً مع سقوط الاتحاد السوفييتي في عام 1991، وتداعي كامل المنظومة الاشتراكية/ الشرقية، وبدلاً من السعي لبناء منظومة أمن وسلام جديدة، بمعايير تختلف عن المعايير المصلحية والأيديولوجية التي سادت خلال عقود الحرب الباردة، استمرّت الولايات المتحدة في نهجها القديم، لتحجيم النفوذ العسكري الروسي.
بعد الحرب الروسية الأوكرانية، تسعى السويد وفنلندا للدخول إلى حلف الناتو، والتمتع بمزايا العضوية من الناحية الدفاعية، نتيجة المخاوف الجديدة الناشئة، وبذلك فإن الدولتين تنهيان عصر حيادهما العسكري، وتنخرطان في مرحلة جديدة، ليس فقط من ناحية الالتزامات العسكرية، بل كل ما سيفرضه الموقف الجديد من التزامات سياسية، ومن إعادة هيكلة داخلية لبعض المؤسسات، لكي تنسجم من حيث البنية والتمويل والإمكانات مع مؤسسات حلف الناتو، وخططه العسكرية، وأجندة التدريبات المشتركة، وقبل كل ذلك، التخلي عن الرؤية القديمة لموقع الدولة في الصراعات، وتبني رؤى جديدة، تابعة بقدر كبير لرؤية واشنطن ومصالحها.
الحياد العسكري هو موقف مصلحي من مختلف الزوايا، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو في الأساس موقف معرفي من ضرورة تأسيس منظومة أمن واستقرار لا تخضع لتجاذبات وصراعات القوى الكبرى، والبقاء على مسافة، قد لا تكون متساوية، من أطراف الصراع، لكنها كفيلة بخلق توازن نسبي، والتمتع بمستوى من الاستقلالية، والمناورة حين تقتضي الضرورة، لتجنب دفع أثمان غير ضرورية، وهو الحال الذي كانت عليه السويد وفنلندا، وسمح لهما بالتموضع ضمن المنظومة الدولية كدولتين مسالمتين، واستثمار هذا الموقع، خصوصاً من قبل استوكهولم، في عمليات وساطة سياسية بين دول وأطراف متنازعة عديدة.
العلاقات بين ضفتي الأطلسي، مرّت خلال العقد الأخير باختبارات عديدة، خصوصاً في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب، فقد أثارت القوانين الضريبية التي سنّها الرئيس ترامب تجاه الصادرات الأوروبية العديد من المخاوف، التي تتجاوز القضايا التجارية والاقتصادية إلى الحيّز العسكري والأمني، وفي لحظة من اللحظات، بدت أوروبا باحثة عن سبيل لبناء استقلالية دفاعية، بعيداً عن واشنطن، وعلى الرغم مما يتضمنه هذا الخيار من مشكلات بنيوية، إلا أن السلوك الأمريكي في عهد الرئيس ترامب، جعله يقترب إلى حدّ كبير من خيار الضررة الاستراتيجية.
التحوّلات الدراماتيكية خلال الأشهر الأخيرة، قلّصت، وربما نحّت جانباً، أي تفكير لدى الاتحاد الأوروبي، وتحديداً الدولتين القائدتين له، ألمانيا وفرنسا، بالعمل على استراتيجية استقلال دفاعي وأمني عن واشنطن، ومن حيث النتائج الواضحة حتى اللحظة، فإن الحرب الروسية الأوكرانية، تصبّ في خانة المزيد من التبعية الأوروبية لحلف الناتو، وبشكل رئيس تبعية لواشنطن، بما يتعلق بالاستراتيجيات الدفاعية والأمنية الأساسية، وجعلت خيار الحياد أمراً مستبعداً، فألمانيا في عهد المستشارة أنجيلا ميركل، كانت لديها مسافة من الاستقلالية يعتدّ بها عن خيارات واشنطن، وكانت قد خطت خطوات كبيرة في بناء علاقات راسخة في مجال الاعتماد على النفط والغاز الروسيين، من خلال خط «نورد ستريم 2»، لكن هذه الاستقلالية اليوم أصبحت مجرد حلم، لم يجد طريقه للتحقّق.
الابتعاد أو الخروج من حالة الحياد، كما في حالتي السويد وفنلندا، أو الانخراط بشكل أكبر في الصراع، كما في حالة بولندا، يتزامن مع خطابات سياسية شعبوية، تستعيد لغة القوة من جهة، وتستعيد معها مكانة الصناعات العسكرية في الاقتصادات الأوروبية، ولن يكون ذلك من دون أثمان على باقي الجبهات الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية، والأخطر من ذلك، هو استعادة سياسات عزل الخصوم، وتقسيم العالم من جديد، بطريقة أيديولوجية، يفترض أن صلاحيتها قد انتهت مع نهاية الحرب الباردة، وصعود العولمة، وبناء قيم عالمية، أكثر انفتاحاً.
لم تكن أوروبا، بعد الحرب الباردة، حيادية تجاه الصراعات، في محيطها الجيوسياسي، أو العالم، لكنها في الوقت ذاته، حاولت دولها الرئيسية إظهار نوع من التوازن، وهو ما كان يسمح بأن تبقى للمؤسسات الأممية، وخصوصاً الأمم المتحدة، فاعلية لا بأس بها، لمعالجة الأزمات في غير مكان من العالم، أو منع انزلاق تلك الأزمات إلى ما هو أسوأ، لكن الخروج الكلي نحو عدم الحياد الصريح، ينعكس بشكل مباشر وسلبي على المؤسسة الأممية الأكبر، التي أصبحت شبه مشلولة، لكنه سينعكس بشكل أكبر على الدول الأوروبية ذاتها.