بقلم: محمد أبوالفضل – العرب اللندنية
الشرق اليوم – زادت الانتقادات الموجهة للحكومة المصرية مع تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية وتأكيدها على مواصلة العمل في المشروعات القومية التي جرى التخطيط لها منذ سنوات، حيث ارتفعت أصوات مؤيدة وأخرى معارضة تطالب بوقف ما لم يتم الشروع في تنفيذه، استنادا إلى تفعيل فقه الأولويات الذي يقتضي إعادة الترتيب في ضوء ظهور مستجدات تفرض التعامل مع بعض المشروعات الكبرى بصورة مغايرة.
وسط النقاش الذي يشتعل وسط قوى سياسية معارضة تستعد للمشاركة في جولات من الحوار الوطني قريبا، أعلنت مجموعة سيمنس الألمانية السبت أنها تقوم ببناء شبكة قطارات فائقة السرعة في مصر بطول ألفي كيلومتر، وتبلغ تكلفتها 8.7 مليار دولار، وهي أكبر طلبية تنفذها المجموعة على مدار تاريخها، والذي يمتد نحو 175 عاما، ما يعني أن القاهرة مصممة على استكمال المشروعات القومية.
يتجاوز النقاش الدائر قدرة الحكومة على توفير الموارد المالية اللازمة لإنشاء المشروعات وتخفيف حدة الأزمة الاقتصادية، فهناك طرق عديدة تسير فيها الحكومة لتدبير الأموال للإنفاق، منها طلب دفعة جديدة من القروض من صندوق النقد الدولي، والتوسع في فرض الضرائب، وعرض بعض الأصول الحيوية للبيع.
يرى الرافضون لهذا الطريق أن مخاطره جمة في المستقبل، وسوف تعاني الأجيال القادمة منه جراء الإسراف في القروض والبيع، فالأزمة الراهنة يمكن أن تستمر فترة طويلة، بما يستوجب المزيد من القروض والتوسع في الضرائب وبيع الأصول، لأن غالبية المشروعات الاستراتيجية لن تدر عوائد مادية تغطي تكاليفها الباهظة.
ويرى المؤيدون لمنهج الاستمرار أن جميع المشروعات حيوية وتخدم ركائز الاقتصاد، وسوف تكون لها مردودات بعيدة عليه، فجزء كبير منها يخص البنية الأساسية والطرق والكباري ووسائل المواصلات التي تدهورت ولم تجد حكومة قادرة على تجديدها، وهي من العناصر الأساسية التي تخدم المستثمرين.
ردد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أكثر من مرة أنه ورث تركة ثقيلة والدولة تحتاج إلى تجديد شرايينها، وهو ما جعله يلجأ إلى تنفيذ مجموعة كبيرة من المشروعات، لا أحد يشكك في جدواها، لكن مشكلتها أنها جاءت في توقيت موارد الدولة فيه شحيحة.
إذا قيست الاحتياجات بالموارد لن تكون متساوية ويطفو الخلل فورا، فالعلاقة غير المتوازنة بين الجانبين تسهم في تصاعد حدة النقاش حول الأولويات والتخلي عن تنفيذ بعض المشروعات، أو تأجيلها لحين تتحسن الأوضاع الاقتصادية وتتجاوز كبوتها، وهو ما يرد عليه المؤيدون بأن الأوضاع لن تتحسن دون مشروعات عملاقة.
تبدو المشروعات الاستراتيجية مهمة لمصر، لكن مع الإيقاع الحالي البطيء تحتاج الحكومة إلى رفع درجة المرونة في تفكيرها وتقوم بالتقديم والتأخير وترك بعضها من دون إهمال، فهناك أمثلة أوروبية لدول تعرضت لأزمات حادة مثل اليونان كادت تتحول بعض مدنها إلى أشباح، وتبنت الحكومة فيها خطط تقشف لتجنب الإفلاس.
يخشى خبراء الاقتصاد أن تؤدي الإجراءات المصرية للمضي في تنفيذ المشروعات الكبرى إلى إعلان الدولة إفلاسها بعد أن زادت فوائد الديون، وقد تجد الحكومة نفسها عاجزة عن الوفاء بها في مرحلة لاحقة ومع توالي الأزمات، فالرهان على العودة إلى الخصخصة وبيع العديد من أصول الدولة له تبعات سياسية واجتماعية مختلفة.
مثل هذا التوجه أزمة كبيرة لنظام الرئيس الأسبق حسني مبارك عندما تحولت الخصخصة والبيع إلى وسيلة للحصول على الأموال لسد احتياجات الناس، وتعرضت حكومة الراحل عاطف عبيد التي برعت في عرض الكثير من شركات القطاع العام للبيع لضغوط سياسية دفعتها إلى الضغط على فرامل قطار الخصخصة.
نجحت الحكومة المصرية في تمرير غلق مصنع الحديد والصلب قبل أشهر تمهيدا لعرضه للبيع، ولا أحد يضمن رد الفعل إذا دهس قطار الخصخصة الكثير من الشركات والمصانع التي تمثل بعدا اجتماعيا لدى شريحة من المصريين، فالتعويضات التي تصرف للعاملين لا تتناسب مع الأحوال المعيشية الصعبة لعدد كبير منهم.
هناك دروس يمكن الاستفادة منها، سواء من تجارب دول أخرى أو من التجربة المصرية ذاتها، لأن تنفيذ مشروعات كبرى مقابل التمادي في القروض وزيادة أعباء الديون وبيع الأصول سوف يصطحب معه انعكاسات سلبية.
من أبرز هذه الانعكاسات أن المشروعات القومية قد تفقد قيمتها إذا كانت تتناقض مع تطلعات الناس في حل أزماتهم العاجلة، وأن البيع نفسه سوف يخلق احتقانات بين شريحة في المجتمع تضررت منه وبين الحكومة التي ستبدو في هذه اللحظة كأنها تتجاوز مهمة مسألة الجباية التي أفرطت فيها.
ومن هنا، تصبح في نظر البعض غير أمينة على أصول الدولة، لاسيما إذا تعرضت لمجالات حيوية، مثل السكك الحديدية ومصر للطيران وبعض البنوك التاريخية والموانئ البحرية، وهي مؤسسات لها قيمة رمزية تفوق قيمتها المادية، لم يجرؤ نظام مبارك في أوج قوته على الاقتراب منها.
بات منهج الخصخصة ملاذا في مصر مع تنامي عجز الكثير من هيئات القطاع العام عن أداء دوره بفاعلية، وما تقوم به الحكومة أو يمكن أن تقوم به يمثل حاجة ملحة، ولن تستطيع الاستمرار في تقبل المعادلة المختلة، أي زيادة المصروفات على الإيرادات، وهي قاعدة اقتصادية سليمة لأن التفكير في إصلاح المرافق وإنقاذ المؤسسات المتآكلة في حاجة إلى إنفاق مضاعف لن تتمكن ميزانية الدولة من تحمله.
تأتي المشكلة من عاملين مهمين، أحدهما الفائدة المنتظرة ومدى المساهمة في مساعدة المشروعات الكبرى على الاستمرار وعدم التعثر، والآخر تجنب حدوث فساد واسع، فالخبرة المصرية الطويلة مع الخصخصة قاتمة، وجانب كبير من حصيلتها لا يدخل عادة خزينة الدولة ويقبع في جيوب بعض المسؤولين.
يفضي اللجوء إلى فقه الأولويات، بصرف النظر على نوعية المشروعات، إلى زيادة الثقة في الحكومة وحل التناقض أو الإشكالية التي تمثلها مطالبة المواطنين بربط الأحزمة على البطون وتحمل التقشف العام وفرض المزيد من الضرائب، وبين عزمها عدم تأجيل استحقاقات المشروعات التنموية وما تحتاجه من موارد مالية كبيرة.
تظهر فئة من المصريين تجاوبا مع تصورات الحكومة وتبدي قدرة عالية على التفهم والتحمل، لكنها لن تستطيع القبول بتصرفات تشير إلى نوع من تجاهل المعاناة، الأمر الذي يجعل من ترتيب المشروعات القومية حاجة سياسية قبل أن تكون اقتصادية إلى حين تمر العواصف التي خلفتها الأزمة الغذائية.
ولعل حالة مصر وفقا لوكالة موديز، حيث غيرت قبل أيام نظرتها المستقبلية للاقتصاد من مستقرة إلى سلبية تعد دليلا على أهمية تفكير الحكومة في اللجوء إلى فقه الأولويات قبل أن تزداد الأزمات سخونة ويصبح تطويقها عملية غاية في الصعوبة.