بقلم: عبد الاله بلقزيز – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – واحدة من أبْدَه بديهيّات الأمن القومي تفرض نفسها على كل مجتمعٍ ودولة: الأمن الاقتصادي. ما من أمنٍ قومي، على الحقيقة، يمكن أمرُه من غير هذا الأمن الذي يجيب الحاجات الماديةَ للمجتمع، ويحرر إرادة الدّولة من التبعيّة للخارج في اقتصادها ولقمة عيش شعبها. وليس يعوِّض عن هذا الأمن التّحتي أيُّ أمن آخر – وإن كان استراتيجيّاً – مثل الأمن القومي الدّفاعي أو العسكري.
لم يكنِ الاتّحاد السّوڤييتيّ، مثلاً، يعاني نقصاً في الأمن القومي الدّفاعيّ حين انفرط كيانُه في مطلع التّسعينات من القرن الماضي؛ كان ما زال يضارع الولايات المتّحدة الأمريكية في القدرة العسكريّة الاستراتيجيّة. ومع ذلك، لم يكن لهذه القدرة أن تحميه من انهيار كانت أسبابه اقتصاديّة- اجتماعيّة في جانبٍ كبيرٍ منها؛ فلقد صَرَف معظم الإنفاق القوميّ في مجال التّسلح والصّناعات الحربيّة، فيما أهمل برامج التّنميّة الاقتصاديّة إلى الحدّ الذي بات فيه أمنه الاقتصادي مكشوفاً وفي حالٍ التراجُع المروِّع.
في المقابل نجحت دولٌ صغرى في أوروبا في تحقيق أمن اقتصادي قوي ومتماسك من غير أن تكون لديها قدرة عسكرية هائلة، أو أن تحقّق أمناً قوميّاً على هذا الصّعيد. وهو ما يصدُق على السّويد، مثلاً، والنّرويج والدّنمارك، وسويسرا. بل إنّ دولاً أكبر منها مثل ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا لم يكن نظامها الدّفاعي قادراً على توفير أمنها القومي – الذي وفّرتْه لها المظلّة الأطلسيّة – في الوقت عينه الذي أحرزت فيه مكتسبات هائلة في ميدان الأمن الاقتصادي.
لا نبغي القول، من وراء هذا كلّه، أن الأمن القومي الدّفاعي ليس من الأولويات، بل القصد أن نشدّد على الحاجة الحيويّة إلى أمنٍ اقتصاديّ في المقام الأوّل. وهو أمنٌ لا يتولّد من حيازة القدرة العسكريّة الاستراتيجيّة، بل العكس هو الصّحيح: القوّة الاقتصاديّة هي التي تنجب القوّة العسكريّة، فتصير وظيفةُ الأخيرة حماية مكتسبات الدّولة في التّنميّة وحماية استقلالها الاقتصادي وبالتالي، قرارها الوطني من المصادرة وسيادتها على نفسها من الاستباحة.
يقع الأمن الغِذائي في قلب منظومة الأمن الاقتصادي؛ من حيث إنّ الغِذاء بات في العالم اليوم، بل منذ زمن، سلعة استراتيجية لا غنًى لأيّ دولة عن توفيرها لحماية أمنها واستقلالها واستقرارها. والمجتمع الذي ينتج غِذاءَه وحاجتَه الاجتماعيّة والوطنيّة إلى ذلك الغِذاء، يحقّق اكتفاءَه الذّاتيّ منه فيحرِّر نفسَه من أَرْباق الاستيراد وأعبائه الثقيلة على ماليّته العامّة، أو هو – على الأقل – يقطع شوطاً في تغطية الكثير من حاجته إليه فيقلّص، بالتّالي، حاجته إلى الاستيراد. وليس يخفى أنّ كُلفة الاستيراد ليست ماليّة فقط، بل قد تكون سياسيّة، أحياناً، فتفرض على المستورِد شروطاً قد تنال – في حال إجحافها – من استقلاليّة قراره.
لقد أثبت الاقتصاد الغِذائيّ جدواه وقيمته الهائلة في مجتمعاتٍ ودولٍ نجحت في بنائه على الوجه الأمثل، فحققت به أمنها الغِذائيّ. ومن ذلك ما حقّقته فنلندا، وأيرلندا، وهولندا، والنّمسا، وتشيكيا، والسّويد… إلخ، في هذا الباب، فجاوزت به الدّول الكبرى ذات الموارد الزّراعيّة الهائلة؛ مثل الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وروسيا، والبرازيل، والهند. وهو إذْ غطّى حاجات الاستهلاك الوطنيّة، ورفع عن هذه البلدان الكثير من أعباء الاستيراد، مكّنَها من قدرةٍ تصديريّة هائلة كانت عائداتها من الموارد الماليّة على اقتصاداتها مُجْزية غايةَ الإِجزاء.
ومن النّافل القول إن مبتدأَ هذا الاقتصاد الغِذائيّ هو الإنتاج الزّراعي وأَرْفاقُه الفلاحيّة من تربيّة المواشي والدّواجن. ولكنّ خبرَه يَكون في شكل إحداث لبنى الصناعات الغِذائية التي تستثمر في المنتَج الزّراعيّ فتوفّر السلع الغِذائية للأسواق والمستهلكين. ولقد أصبح في الإمكان، اليوم، تعظيم المنتَج الزراعي والفلاحي عن طريق استخدام الوسائل التّكنولوجيّة الحديثة وأحياناً، حتّى من دون توسعة رقعة المساحات المزروعة، على الرّغم من أنّ توسعها يوفر إمكاناً لمنتجات أوفر.
على أنّ كلمة السّر في نجاح مشروع الاقتصاد الغِذائيّ هو النّجاح – ابتداء – في إنتاج مشروعٍ للتّنميّة الزّراعيّة شاملٍ تُسَخّر فيه الموارد البشريّة، والكفاءات العلمية، والاستثمارات الماليّة العامّة والخاصّة، فضلاً عن الإمكانيات التّكنولوجية الهائلة الجديدة. ولا يمكن لمشاريعَ مثل هذه أن تُبْصر النور إلاّ متى احتلت الزراعة مكانة مركزيّة في السياسات العامة للدّولة وفي أولويّاتها الاستراتيجيّة. وفي ذلك، بالذات، تفوقت تلك البلدان المومأ إليها.