بقلم: علي الصراف – العرب اللندنية
الشرق اليوم – يريد الرئيس التونسي قيس سعيد تعديل الدستور لإقامة نظام رئاسي، بدلا من النظام البرلماني الذي نشأ عقب اضطرابات العام 2011.
التونسيون محظوظون في النهاية عندما يكون لديهم رئيس يعرف مكمن العلة ويريد معالجتها. صحيح أنه لا يؤديها على نحو ما يتطلب “أتيكيت” التسويق الإعلامي، ويبدو بطيئا، ويواجه تحفظات متزايدة من بعض الأحزاب والهيئات، إلا أنه يمضي في الطريق الصحيح. هذه الأحزاب، هي في النهاية جزء من المشكلة.
تونس، كالكثير من بلدان العالم، تحتاج إلى رأس مدبر، يتحمل المسؤوليات ويُحاسب عليها، ويستعين بفريقٍ قادر على ترشيد القرار، وصناعته على أسس معرفية، لا أيديولوجية. الأيديولوجيا مهمة، ولكن في موقع الدليل، لا القائد. القيادة معرفة بالحقائق والإمكانات. وهي فن صناعة الخيارات والتوازنات بما لديك من أرقام وبيانات، وليس بما لديك من افتراضات فكرية.
ما عرفته تونس خلال 11 عاما من الفشل، يعود بالدرجة الأولى إلى تنازعات الأحزاب، واعتقاد كل منها أنه هو وحده مالك الصواب المطلق. وعندما كان يتعلق الأمر ببعض الخيارات، فإن التنازعات إذا ما تم كسرها لصالح “تحالف الأغلبية”، فإنها غالبا ما كانت تُخلي مكانها لتسويات وصفقات، تقول التجربة إنها هدمت وما عمّرت. وكانت سببا لتفشي الفساد داخل مؤسسات الدولة، بكل ما يتبعه من انهيارات ومواطن ضعف أخرى.
التجربة البرلمانية في تونس لم تكن سبيلا لتجسيد “الديمقراطية” بمقدار ما كانت سبيلا لتجسيد الفوضى وضياع البوصلة.
الإفراط في التعددية الحزبية وحده دليل على فساد عالم السياسة، وأطماع القائمين عليها، ورغبة كل بضعة أنفار بتولي السلطة، إما بشعارات فضفاضة، وإما بوعود فارغة، وإما بالفساد نفسه. وفي جميع الأحوال، فإن أحدا ما كان ليجرؤ على أن يقدم برنامجا يستند إلى معارف حقيقية بالأوضاع الاقتصادية للبلاد وإمكاناتها وأزماتها وسبل معالجتها.
والأمر لا يقتصر على أحزاب تبيع الجهل، ولكنه يمتد إلى شعب يشتريه أيضا. فلو كان التونسيون على مقدار كاف من الوعي والنضج السياسي، ما كانوا ليمنحوا السلطة لا لحزب النهضة ولا لأي من العصابات السياسية الأخرى التي دارت حولها، أو حتى التي خاصمتها. إذ نادرا ما سُئلت هذه الأحزاب عن الأرقام في برامجها، أو من أين ستأتي بالمال لكي تصلح مواطن الخلل. فكل ما كان لديها هو كلام فارغ، على كلام فراغ. حزب يبيع، والشارع يشتري. وليست السلطة، من بعد ذلك، إلا مشروع للفساد.
التجربة البرلمانية لا تصلح حتى في دول متقدمة. لأن الحاجة إلى وجود رأس مسؤول تبدو أكثر فاعلية، وأصوب منهجا من الناحية التنفيذية، وأقل مدعاة للغرق في زحام الجدل. بينما الجدل في عالمنا نحن، ليس سوى دجل. والدجالون لو كانوا يبيعون المزاعم وحدها، لكانت نصف مصيبة، ولكنهم يبيعون الله وأنبياءه معها. فإذا رفضت ما يقولون، كفرت بربك. وإذا رضيت به، كفرت بعيشتك.
وقد يستعين الرئيس بحزب يدعمه. إلا أنه يظل مسؤولا عن تنفيذ ما يزعمه أو يعد به. وأول ما يتعين أن تفعله الأحزاب المعارضة، هي أن تسأله عن تلك الوعود، وتشنّع به إذا ما أخلى بها. ولن يطول به المقام، حتى يُري الناسَ ظهرَه، ويرحل.
ومثلما حملت التجربة البرلمانية في تونس أحزاب فساد إلى السلطة، فلم تحقق إلا الفشل، فقد حملت التجربة نفسها إلى السلطة في العراق عصابات وميليشيات وأحزاب دجل وجرائم منظمة، وأنشأت نظاما قائما، برمته، على الفساد. ووسط زحمة المستفيدين من بيئة الفساد التي ظلت تقدم نوابا يرشون ويرتشون، فلم يظهر أحد، في كل مناحي السلطة أو زواياها، يملك الجرأة على الدعوة إلى العودة إلى نظام رئاسي.
التونسيون محظوظون حقا. ويجب الانحناء إلى حقيقة أنهم هم أيضا، الذين صنعوا هذا الحظ في لحظة وعي عارمة.
في يوم ما، سوف تأتي لحظة حساب للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي. ولسوف يكون بوسعه أن يقول لناخبيه إنه أنقذ البلاد من الفوضى. ولكن ذلك لن يكون دليلا كافيا على كفاءته. فيقول أيضا، إنه عمل كذا وكذا من مشاريع إعادة الإعمار، وإنه حقق استقرارا في الميزانية العامة، وإن معدل البطالة إلى تراجع إلى كذا، وإن التضخم أمكن كبحه عند حدود كذا، وإن مؤشرات الفساد انخفضت إلى مستوى معين. بينما سوف يكون بوسع منافسه أن يقول إن الميزان التجاري للبلاد ظل يحقق عجزا بمقدار كذا، وإن الإنتاج الزراعي لم يقلص الحاجة إلى استيراد مواد حيوية بكذا طن من القمح، وإن المدارس مكتظة، وإن خدمات الصحة العامة في البلاد ليست على المستوى المطلوب، وإن هناك حاجة إلى أن يكون لدينا مستشفى لكل 100 ألف مواطن، بدلا من الواقع الذي يوفر مستشفى لكل مليون مواطن، وهكذا. وعندما يجادل الرئيسُ منافسَه في هذا الوعد، فلا بد أن يسأله: من أين ستأتي بالمال لكي تبني خمسة آلاف مستشفى جديدة؟ وأين سيحدث النقص في الميزانية؟ أو ممّ سوف تستقطع لكي تغطي التكاليف؟ وهل لديك أطباء وممرضون يكفون لتشغيل هذا العدد من المستشفيات؟
النقاش سوف يستقيم. والمنافسة سوف تجلس على كرسي المعرفة. والحقائق هي التي تعلو على السجال.
وحيث أن أحدا لا يمكنه أن يحقق نجاحا في كل اتجاه، فإن النقاش سوف يأخذ بالإصلاح في الخيارات الممكنة، وتتم المفاضلة في ما بينها بحثا عن الأفضل أو الأيسر، أو الأعلى فائدة والأقل ضررا.
الناخبون سوف يقررون بأنفسهم، أي الحقائق هي الأكثر أهمية بالنسبة إليهم. إذا بقي الرئيس في منصبه، فإنه سيظل منشغلا بما فشل فيه، فيعالجه. وإذا رحل، فإن خليفته سوف يكون مضطرا إلى أن يضع برنامجا تنفيذيا لوعوده، خشية من يوم حساب سوف يأتي.
أينما ذهبت، فإن مستويات الفساد في دول “الرأس الواحد” أقل بكثير من دول الرؤوس المتعددة. وحتى إذا كان “الرأس الواحد” هو نفسه فاسدا، فإنه سوف يخشى من تفشيه لكي لا ينفضح بما فعل.
قادة حركة النهضة يدعمون النظام الرئاسي الذي أوجده رجب طيب أردوغان في تركيا، إلا أنهم يتظاهرون ضده في تونس. المسألة، بالنسبة إليهم، ليست مسألة نفاق، بل مسألة تجربة. هم يعرفون أن تركيا لا تتحمل نظام فساد، حتى ولو بقيت شلة صغيرة تحوم حول دائرة السلطة. بينما أثبتت تجربة 11 عاما أن تونس تتحمل، حتى ليمكن نهبها على أوسع نطاق، وحتى ليمكن استغلال النفوذ فيها للكسب “المشروع” وغير المشروع.
تجاربنا المحدودة في قيم الديمقراطية وقواعدها ومعاييرها الدستورية والأخلاقية أبعد من أن تكون كافية لكي تضبط الفاعلية السياسية على تلك القواعد والمعايير. ولئن كان الخوف يقتصر على أن دولة “الرأس الواحد” سوف تصنع “دكتاتورا”، فالحقيقة هي أن وجود حريات، إعلامية خاصة، يمكنها أن تكبح هذا الخطر.
الرئيس الأميركي توماس جيفرسون (1743 – 1826)، الذي يعد واحدا من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، كان يقول “إن صحافة حرة من دون دولة أفضل من دولة من دون صحافة حرة”.
والصحافة الحرة هي ليست صحافة التشنيع والأباطيل والاتهامات من دون أدلة، وإنما صحافة تلاحق الحقائق وتتكفل بتحليلها، حتى ولو قدمتها في إطار يختلف عن آخر.
وعندما يكون هناك برلمان يراقب، فلا شيء يبرر الخوف من ظهور طاغية. خاصة إذا أمكن منعه من التجديد لنفسه إلى ما لا نهاية. لأن “سلطةً مطلقة، فسادٌ مطلق”.
كائنا ما كان السبب الذي يدفع البعض إلى معارضة إصلاحات الرئيس قيس سعيد، فإنه يقدم للبلاد خدمة، لو لم يقدم غيرها، فإنها كافية لإعادة وضع هذا البلد على سكة النجاة.