بقلم: محمد خليفة – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – الفكر العالمي الإنساني يواجه ثغرة في شقه السياسي، خاصة بعدما أصبح رمزاً للأوتوقراطية العسكرية، وبات يمثل عقلية تؤمن بالقوة لا العدل، والتي تُحدد، وحدها، مكانة كل دولة؛ بل وتترجم كذلك معيار الحق والخير.
وإذا عدنا بالزمن إلى الوراء قليلًا نجدها نفس العقلية المرعبة التي هيمنت على العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومن هنا يمكن تفسير كافة الإجراءات السياسية والعسكرية التي أفرزتها مأساة أوكرانيا، والتي تعد لحظة فارقة في التاريخ المعاصر؛ حيث إنها غيرت حسابات كثيرة في العالم من شرقه إلى غربه. إذ إن كل العالم اليوم، سوف يدفع ثمن هذه الحرب، فلا يعلم أحد متى تنتهي؟ وكيف تنتهي؟ وهل يمكن أن تمتد إلى دول أخرى؟ وما هو مستقبل العالم إذا اتسع نطاق الحرب؟ وهل ستُستخدم فيها أسلحة نووية؟ أسئلة كثيرة تُطرح هنا وهناك، منها ما ستكشف عنه الأيام القادمة، وأخرى لن تظهر إجابتها إلا بعد سنوات وربما عقود.
إن مناورات، «الرد البارد» التي قام بها حلف شمال الأطلسي في شهر مارس/آذار الماضي، بمشاركة آلاف العسكريين، كانت رسالة إلى من يهمه الأمر بأن هذا الحلف جاهز للدفاع عن مصالحه في منطقة القطب الشمالي، قد تزامنت تلك المناورات مع العملية العسكرية الروسية الخاصة في منطقة دونباس بأوكرانيا، وقد أكد الحلف أنه لن يتأخر في الدخول في معركة مع خصومه متى وجد أن الضرورة تفرض عليه ذلك.
وكان الحلف نفسه قد أجرى مناورات مماثلة العام الماضي، تحت اسم «الرمح الثلاثي» وكانت الأكبر منذ انهيار الاتحاد السوفييتي؛ حيث تم حشد نحو 65 سفينة و250 طائرة و10 آلاف مركبة. وقد وصف رئيس الحلف الغربي ينس ستولتنبرغ، تلك المناورات، آنذاك، بأنها «عرض قوي» لقدرة الحلف ووحدته وتصميمه في وقت الخطر المتزايد في أوروبا». وأضاف: «إن البيئة الأمنية في أوروبا قد تدهورت بشكل كبير في السنوات الأخيرة». وفي الحقيقة أن هذه المناورات وغيرها تأتي في إطار التحضير لمواجهة أي حرب قد تقع بين الحلف الغربي وروسيا، فالعلاقة بين الطرفين وصلت إلى مرحلة الخطر الناجز، بعد انقطاع كل العلاقات التي كانت موجودة بين الطرفين، سواء أكانت علاقات سياسية أو اقتصادية أو سواها من العلاقات والمباحثات، وبات منطق الحرب هو الذي يحكم تلك العلاقة.
حاول الغرب، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، التقارب مع روسيا في مسعى منه لضمها تحت جناحه، لكن هذه الدولة بمساحتها الجغرافية الهائلة وإمكانياتها البشرية الكبيرة ومواردها الاقتصادية الضخمة، لا يمكن أن تصبح تابعاً لأحد؛ بل إنها تمثل قطباً بنفسها. وعندما أدرك الغرب صعوبة ترويضها، قلب لها ظهر المجن، واتخذ مما جرى في أوكرانيا ذريعة له ليقطع معها كل صلة، فألغى عضويتها في مجموعة السبع الكبرى، وفرض عليها عقوبات اقتصادية شاملة، وفي المقابل فرضت روسيا عقوبات على دول الغرب، وقصرت العلاقة معها على الضروري فقط. وفي نفس الوقت قامت بتطوير أجيال مخيفة من الأسلحة فرط الصوتية المدمرة، وغيرها من الأسلحة الدقيقة التي أظهرت تفوقها وقدرتها على رد الاعتداء عليها في حال وقوعه. وعلى الجانب الآخر أقامت علاقات وثيقة مع الصين وتعاونت معها حتى وصلت الدولتان إلى مرحلة التحالف الاستراتيجي.
واليوم يقف الغرب حائراً في كيفية التعامل مع روسيا، فهو لا يستطيع أن يقبلها كندٍ له في العالم، وفي نفس الوقت لا يجرؤ على مهاجمتها عسكرياً خوفاً من رد غير متوقع منها، على الرغم من تقديمه المساعدات العسكرية للحكومة الأوكرانية.
وتعد منطقة القطب الشمالي ذات أهمية كبيرة لأن لروسيا حدوداً طويلة عليها، وهي محاذية لولاية آلاسكا الأمريكية التي كانت، في الأصل، روسية وباعتها إلى الولايات المتحدة خوفاً من التوسع البريطاني. وتمثل آلاسكا نقطة ضعف كبيرة للولايات المتحدة، لأنها غير متصلة بأراضيها بشكل مباشر؛ بل يفصل عنها أراضي كندا، وبالتالي فإن نقل القوات والخدمات اللوجستية إلى تلك الولاية البعيدة عنها يتطلب وقتاً وجهداً كبيرين، وذلك بخلاف روسيا التي تضع قواتها بمحاذاتها، وتستطيع الهجوم عليها واحتلالها في مدة وجيزة. ولذلك تتم إقامة المناورات في تلك المنطقة من قبل كل دول حلف شمال الأطلسي، من أجل تحقيق التدخل السريع العاجل في آلاسكا من الجانبين الأوروبي والأمريكي على السواء، في حال اندفعت القوات الروسية إليها في أية حرب قد تحدث بين الطرفين. ومن هنا تبدو منطقة القطب نقطة ضعف كبيرة في استراتيجية الولايات المتحدة الدفاعية.