بقلم: علي الصراف – العرب اللندنية
الشرق اليوم – لا ينتظر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من غزو أوكرانيا إلا الخيبة والخسران. شيء لن يكون بوسع روسيا أن تعوض خسائره المعنوية ولا حتى بعد 100 عام.
يقال “الحقيقة هي أول ضحايا الحروب”، ولكن روسيا التي دخلت الحرب بكامل عدتها من الغطرسة، لم تهزم إلا كبرياءها هي أولا.
لا يهم كيف سوف يذكر العالم هذه الحرب. يكفي أن الرئيس بوتين سوف يرى بنفسه كيف تنتهي مغامرته بمكانة بلاده، تاريخها، وكبريائها.
التعالي على الحقيقة، لن ينفع، ولن يفعل غير أن يزيد الطين بلة.
والحقيقة تقول إن روسيا تتكبد كل يوم خسائر لا معنى لها، بالأرواح والمعدات. صحيح أنها تنشر الدمار في أوكرانيا، إلا أن هذا نفسه سوف يضاعف تكاليف المطالبة بتعويضات.
الآلاف من الجنود الروس قتلوا، ولسوف يُقتل أكثر منهم إذا ما امتدت الحرب ثلاثة أشهر أخرى، حتى يفيض ببلاده الكيل، فتضطر إلى انسحاب مخز، كما فعلت في أفغانستان.
لقد اكتشفت روسيا، بنفسها، أن لديها جيشا من طراز جيوش العالم الثالث. دباباتها تتعرض لمجزرة كل يوم، وطائراتها تتهاوى. وكتائبها تقاتل بوسائل بدائية، ما يجعلها عرضة سهلة للاستهداف.
أوكرانيا تماطل في المفاوضات، لأنها تريد أن تزيد الحفرة عمقا. ومثلما أرادت موسكو أن تفرض إرادتها على كييف بالقوة، فإن كييف تريد الآن أن تفرض الهزيمة على موسكو بجعل خسائرها تزداد حتى لتنكشف ستائر الهزيمة، فترضخ للأمر الواقع.
أوكرانيا، بالتمويلات المفتوحة التي حصلت عليها من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أصبح بوسعها أن تعزز قوتها الدفاعية بمليون مقاتل.
الولايات المتحدة سبق وأن أعلنت أنها تعتزم تزويد الجيش الأوكراني بعشرة صواريخ مضادة للدبابات، في مقابل كل دبابة يرسلها بوتين إلى أوكرانيا. لا توجد هزيمة مسبقة أكثر فصاحة من ذلك. ومع الأربعين مليار دولار من المساعدات العسكرية والإنسانية والاقتصادية التي أقرها الكونغرس، لم تعد أوكرانيا في حاجة إلى أن تقلق بشأن قدراتها المادية على المواجهة.
الرئيس الأميركي جو بايدن طلب من الكونغرس 33 مليار دولار، فزادها الكونغرس لتصل إلى 40 مليارا. هذه رسالة، أقرب إلى صفعة على وجه الحماقة التي قادت روسيا إلى الرهان على فشل التحالف الغربي في الدفاع عن نفسه.
تعامل الغربيون بمقدار هائل من التساهل عندما غزت روسيا شبه جزيرة القرم في العام 2014. وكان هناك تفهم ضمني للمطالب الروسية باستعادة السيادة الروسية عليها. حسابات بوتين الخاطئة بدأت من هناك. فظن أن العالم سوف يتعامل مع غزوه لأوكرانيا كما تعامل مع غزوه للقرم.
الحسابات اختلفت على كل وجه. التحدي الروسي للنظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة بدا فاقعا. فرد عليه هذا النظام بكل ما يملك من عزائم. طرد روسيا من أن تكون شريكا اقتصاديا، كما طردها من أن تكون طرفا مقبولا في الحوار حول صياغة الأمن الدولي وتوازناته. وفرض عليها عقوبات تبلغ حد الاختناق، وحوّل تحالفها مع الصين إلى عبء على بكين، التي أصبحت مضطرة إلى شراء ما لم يعد الأوروبيون يرغبون بشرائه. وسخر من تهديداتها النووية، فلم يحملها على محمل الجد، لكي تعرف موسكو أنها تهدد بالانتحار عندما تهدد باستخدام أسلحتها النووية.
ويوم كانت إحدى ذرائع بوتين لغزو أوكرانيا أن هذا البلد يزمع أن يكون عضوا في الحلف الأطلسي، ما يشكل تهديدا أمنيا لروسيا، ها هي فنلندا والسويد تطلبان عضوية الأطلسي، لتوجها صفعة مباشرة لتلك الذرائع، وترد على صاعها بصاعين.
قطعت موسكو خطوط الكهرباء عن فنلندا التي تستورد 10 في المئة من احتياجاتها من روسيا، فلم تنطفئ لمبة واحدة في شوارع هلسنكي. الشيء نفسه حصل عندما قطعت روسيا الغاز عن بولندا وبلغاريا. وهو ما سوف يحصل أيضا لو قطعت موسكو كل الغاز عن التحالف الأوروبي. الأسعار سوف ترتفع على المواطنين الأوروبيين، ولكن مثلما أساء الرئيس بوتين تقدير عزائم الأوكرانيين على الدفاع عن بلدهم، فإنه يسيء تقدير عزائم الأوروبيين على تحمل الأعباء. لن تنكسر شوكة أحد في أوروبا. كل ما سوف يفعله الأوروبيون هو تقليص الاستهلاك إلى أدنى حد. هذا المجتمع مفرط في الرفاهية، ويمكنه أن يستغني عن بعضها. روسيا هي التي سوف تنتحر اقتصاديا، وليس أوروبا.
الشوكة التي انكسرت هي شوكة روسيا. يقال “إن التهديد باستخدام القوة أفضل من استخدامها بالفعل”. وهذا ما حصل. فعندما تكشف القوة عن نفسها، فإنها تكشف معها آليات التصدي لها والتكيف مع عواقبها، فتضعف. لم يدرك بوتين ذلك. غلبته الغطرسة، فظن أنه يستطيع أن يفعل في كييف ما فعله أسلافه في براغ. لم يلاحظ أنه يعيش في عالم مختلف جذريا. لم يلاحظ أن روسيا ليست هي الاتحاد السوفياتي، وأن التوازنات الدولية التي كانت قائمة في العام 1968 لم تعد هي نفسها. تشيكوسلوفاكيا كانت جزءا من حلف وارسو. وكان غزوها نوعا من إعادة ترتيب الأثاث داخل بيت ذلك الحلف. أوكرانيا شيء آخر، في عالم آخر، في تحالف آخر.
الرئيس بوتين حذر. لا شك في ذلك. ولكن يقال “من مكمنه يُؤتى الحذر”. انهيار الاتحاد السوفياتي أدخل روسيا في صلب نظام اقتصادي جديد عليها. هذا النظام تقوده الرأسمالية العالمية. وتقوده الولايات المتحدة. وفارق القوة الاقتصادية بين روسيا والولايات المتحدة وحدهما شاسع. فإذا أضفت إليه النظام الاقتصادي الدولي الذي يقف برمته الآن في مواجهة روسيا، فسوف تعرف من أين تأتي صعقة الانهيار. إنها تأتي من مكمن الاقتصاد الروسي نفسه. إنه اقتصاد بالكاد يمتلك دفاعات محدودة. الركود المحتمل هو ما سوف يجعل جدران الكرملين تنهار. فقط انتظر سنة واحدة. وسترى كيف سيعلو الغبار.
التحالف الغربي لا ينتظر هزيمة موسكو عسكريا. إنه ينتظر هزيمتها الاقتصادية. الاقتصاد هو رافعة القوة. وعندما تنهار، فإن كل دبابات بوتين وطائراته وأسلحته النووية سوف تنهار من تلقاء نفسها.
الاتصالات التي يجريها الزعماء الغربيون بالرئيس بوتين، لم تحاول حتى الآن أن تفتح له نافذة للفرار. إيمانويل ماكرون وأولاف شولتس حافظا على خطوط الاتصال مفتوحة لسببين: الأول، لكي يتفحصوا مستويات الغطرسة. والثاني، لكي يطلبوا منه التراجع. الوقت ما يزال مبكرا بالنسبة إلى الزعماء الغربيين لكي يقدموا له عروضا لحفظ ماء الوجه.
روسيا، بكل معاني الكلمة، لم تعد شريكا جديرا بالثقة في أي شيء. ولم تعد طرفا في أي حوار يتعلق بالأمن الدولي. ولا بأي قضية من قضاياه. لقد أصبحت خارج اللعبة تماما. ولن يمضي وقت طويل قبل أن يتم التعامل معها كمنبوذ دولي مثل حلفائها الآخرين في كوريا الشمالية وإيران وسوريا.
الانسحابات المتواصلة للشركات الغربية من أسواقها، بكل ما كانت تعنيه من تخلٍ عن مئات المليارات من الاستثمارات، قالت شيئا واحدا: إنها انسحابات مئة عام.
الغطرسة شيء، والكبرياء شيء آخر. القوة هي التي ترسم الفاصل بينهما. استخدم القوة، فتتحول الكبرياء إلى غطرسة. أو تراجع عن القوة، فتتحول الغطرسة إلى كبرياء.
والكبرياء الروسي نبيل وأسطوري. إنه كبرياء جدير بكل ما أنتج من أدب. إلا أن المغامرة الأوكرانية حطمته. أغرقته في مستنقع تملأه دباباتها الغارقة. ولن يُستعاد قبل مرور مئة عام.