بقلم: د. إدريس لكريني – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – على الرغم من التطور الإيجابي الذي شهدته الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية في ليبيا خلال السنوات الأخيرة، مع بروز مجموعة من الوساطات والمساعي الحميدة الإقليمية والدولية، واقتناع الفرقاء السياسيين بأهمية الجلوس على مائدة الحوار، فإن طريق تحقيق الاستقرار والسلام المستدام مازال طويلاً، ويقتضي بذل مزيد من الجهود والمبادرات.
حظيت الأزمات المتلاحقة التي شهدتها ليبيا منذ عام 2011 مع رحيل نظام القذافي، باهتمام عدد كبير من المفكرين والباحثين، الذين تناولوا الوضع الليبي من زوايا مختلفة، ووقفوا عند مختلف العوامل التي تغذي الصراع في البلاد في أبعادها الداخلية والخارجية، كما قدموا مجموعة من التصورات والرؤى كسبيل للخروج من المأزق.
وفي هذا السياق، تأتي إسهامات الأكاديمي وعالم الاجتماع التونسي الراحل د. المنصف وناس (1956-2021)، الذي تمحورت مجمل دراساته وإسهاماته البحثية والفكرية حول تحليل الديناميكيات السياسية والاجتماعية في البلدان المغاربية، وعلى امتداد لقاءات علمية عدة جمعتنا في تونس، لامست قناعته الراسخة بضرورة تحقيق أمن مستدام في المنطقة كفيل بتحقيق التنمية، وبإرساء تعاون مغاربي يتيح استثمار الإمكانات المتاحة، وبناء تكتل إقليمي كفيل بمواجهة مختلف التحديات الداخلية والخارجية.
وفي كتابه الموسوم: «ليبيا التي رأيت، ليبيا التي أرى محنة بلد» الصادر عن الدار المتوسطية للنشر بتونس، عام 2018، أقر الكاتب بمكانة ليبيا في وجدانه وحبه الكبير لها؛ حيث وصفها بالعشيقة التي عرفها من خلال شقيقه الأكبر الذي كان يشتغل هناك ما بين 1969 و1972. وقد بدأت زياراته لهذا البلد عام 1986 بغرض علمي، يتعلق بإنجاز بحث أنتروبولوجي؛ حيث تشكلت له رؤية واضحة حول المجتمع الليبي.
يؤكد الراحل أن فهم الشخصية الليبية هو مدخل علمي أساسي لتحليل العديد من الظواهر وفهمها وفي مقدمتها الأزمات العميقة التي تمر بها البلاد.
وفي مستهل كتابه، أبرز الباحث أهمية إعمال العقل والحوار في التعاطي مع الأزمة الليبية؛ حيث طرح سؤالين كبيرين: كيف يمكن القطع عملياً مع قراءة مرحلة ما بعد فبراير 2011؟ وهل يملك المجتمع الليبي موارد تاريخية واجتماعية وسياسية واقتصادية وقيمية كافية لإعادة البناء ومغادرة حالة الإخفاق؟
وللإجابة عنهما، تناول الموضوع من خلال محورين أساسيين، أولهما، يتصل بالوقوف على جذور الأزمة والإخفاق والعنف في المجتمع الليبي، وثانيهما، يرتبط بالمدنية الليبية الجديدة، من حيث شروطها ومتطلباتها وكيفيات إعادة البناء.
وفي توصيفه للأزمة، اعتبر أن «التدخل الأطلسي الخارجي في البلاد، عرّى اختلالات المجتمع الليبي، ونفخ في روح الجغرافيا الأحقاد وأيقظها من تحت الرمال، وأحيا تاريخ الضغينة والثأر بين القبائل والجهات والفئات خاصة في الغرب الليبي واستثمر بسخاء في بعثرة مفاصل المجتمع»، مضيفاً أن الغرب تعمّد تدمير الدولة الليبية الواهنة لتسهيل تدخلاته في هذا البلد الغني.
كما حرص على رصد الإشكالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ليبيا الغنية بإمكانياتها المختلفة على عهد القذافي، وبخاصة على مستوى سيادة منطق الصوت الواحد، مبرزاً أيضاً أن الأزمة التي عمّت البلاد ما بعد 2011 هي نتاج لضعف الخبرة، مؤكداً أن سؤال إعادة البناء، يفرض القطيعة مع مظاهر الشمولية.
وبعد التطرق لتجليات الأزمة، في ارتباط ذلك بتسرب السلاح وفرار السجناء وتدهور الأمن.. أبرز أن السلطة لم تستثمر بسخاء في بناء الإنسان ودعم حداثته.
وقد خلص إلى مجموعة من النتائج فيما يتعلق بتدبير الأزمة؛ حيث أكد ضرورة استئثار الشعب الليبي بتحديد اختياراته، بعيداً عن كل التدخلات الخارجية، موضحاً أن الانسداد السياسي يعمّق الأزمات ويقتل كل التحركات، مع التأكيد على حيوية توفير البدائل، ومشيراً إلى أهمية اعتماد الحل السياسي والحوار في إطار الشراكة في الراهن والمستقبل والمصير، والتوافق، وعدم الإقصاء، وتقديس الثروات الوطنية، واحترام حق الأجيال فيها، مع ضرورة تدارك الثقافات الأساسية من مصير مشترك، واسترداد الأموال من الخارج، واحترام القانون ودولة المؤسسات. مع تأكيد التحلي بقيم المواطنة بما تحيل إليه من حقوق وواجبات، وعيش مشترك، وروابط وجدانية بالأرض والمجتمع، بصور تتجاوز رابطة الجنسية ومجتمع المتساكنين، بما يسهم في بناء مجتمع المواطنة.. وهذا هو المدخل المناسب لمواجهة الإرهاب وصيانة البيئة، وتحصين المجتمع داخلياً وخارجياً.
يصرّ الكاتب أيضاً على الحوار، والاتفاق على ضرورة الدولة، والتفريق بين الثروة الوطنية ومنطق الغنيمة، وإعادة إحياء الجيش وتطوير أدائه بشكل احترافي، وبناء المؤسسات الأمنية على أساس الدولة الجديدة، من خلال حكومات وطنية قوية، وقادرة على كسب مجموعة من الرهانات في ارتباط ذلك بتحديث الإدارة، والاهتمام بالمؤسسات الثقافية والصحية والتعليمية وبتكوير المنظومة القانونية والاستثمار في الشباب.
إن تعزيز الاستقرار والتقدم في ليبيا، يظل متوقفاً في جزء كبير منه على إرساء دولة مدنية منفتحة على كل الليبيين، وقادرة على تجاوز الانتماءات الضيقة وعلى مكافحة كل مظاهر الفساد وكل التهديدات التي تواجه الحق في الحياة.