الرئيسية / مقالات رأي / الوعي الاستراتيجي بالزراعة المصرية

الوعي الاستراتيجي بالزراعة المصرية

بقلم: محمد أبوالفضل – العرب اللندنية

الشرق اليوم – فرضت أزمات الغذاء العالمية، التي عكست آثارها السلبية على مصر في تعثر استيراد القمح من الخارج، تحديات مضاعفة في مجال الزراعة التي انتبه إليها مبكرا النظام الحاكم، دون أن تحظى بالقدر الكافي من الاهتمام الذي يقود إلى التخلص من أمراضها المزمنة، ففي ظل العواقب الوخيمة لم يعد هناك بُدّ إلاّ العمل على التوسع في مساحة الرقعة الزراعية، ومنح الحبوب أولوية كبيرة، في مقدمتها القمح.

من المتوقع أن يمر العام الجاري في مصر بلا أزمة قاسية، حيث يسد المخزون الاحتياطي مع الإنتاج المحلي رمق المصريين، بينما المعاناة قد تظهر بقوة مع استمرار الأزمة العالمية وزيادة الدول التي تفرض حظرا على تصدير القمح، قبل أن تتمكن الحكومة من تضييق الهوة بين احتياجاتها الغذائية وبين إنتاجها المحلي.

دخلت المشروعات الزراعية الكبرى في امتحان صعب لتوفير مساهمة معقولة من الحبوب، وفقا لحاجيات الشعب المصري، فما تم الإعلان عنه من زيادة في الرقعة الزراعية عبر استصلاح الأراضي الصحراوية سوف يوضع تحت المنظار لتحديد حجم الفائدة الحقيقية، وأن توفي الحكومة بما وعدت به الفلاح من حوافز، وطمأنة المواطنين من عدم مواجهة ندرة في المواد الغذائية.

أنفقت الحكومات المصرية المتعاقبة أموالا طائلة على مشروعات مثل توشكي في الجنوب، والعوينات في الغرب، وسيناء في الشمال الشرقي، ولم تظهر كراماتها جميعا بشكل واضح في أزمة القمح، لأن المساحة المزروعة منه لا تلبي سوى نسبة محدودة ويتم استيراد النسبة الأكبر، ما جعل البلاد معرضة إلى مخاطر عند حدوث أزمات مفاجئة في الدول التي يتم الاعتماد عليها.

رغم أن عملية تنويع المصادر والعلاقات والتحالفات أصبحت جزءا مهمّا في التوجهات المصرية، في الزراعة والسلاح والسياسة، فإنه لا أحد يأمن مكر المنتجين مع التحولات المتلاحقة على الساحة الدولية، والتي لا تقتصر تداعياتها على المناطق الملاصقة لمنبع الأزمات.

يوحي تبني مشروع عملاق مثل الدلتا الجديدة في شمال غرب مصر أخيرا أن هناك تفكيرا جديا في الأزمة قبل انفجارها، حيث يتضمن استصلاح بضعة ملايين من الأفدنة وزراعتها، ومع ارتفاع حدة المشكلات الاقتصادية قد يتعرض المشروع إلى نكسة ما لم يتم تغيير الأولويات ومنح اهتمام خاص لتوفير التمويل اللازم له، لأنه الوحيد الذي يمكن أن ينقذ مصر على المدى البعيد عندما تكتمل أركانه.

لم تكن السياسة الزراعية تحظى بما يكفي من اهتمام في العقود الأربعة الماضية، وجرى الإعلان عن مشروعات وأنفقت المليارات من الدولارات وتعثر بعضها في منتصف الطريق، فمشروع مثل توشكى حظي بترويج كبير في العقد الأخير من حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك كاد يطويه النسيان قبيل رحيله، بسبب عقبات جغرافية حالت دون عملية نقل المياه إلى الأماكن البعيدة عن المصادر الرئيسية لها.

بدأ إحياء المشروع مؤخرا، وأخذت بشائره تظهر على السطح بعد أن توافرت إرادة سياسية ورغبة اقتصادية لإزالة عراقيل منعت الاستفادة منه بالطريقة الجيدة. ويمكن أن يسهم المشروع بجزء معتبر في زيادة المحاصيل الزراعية مع تسهيلات قدمت في توطين المواطنين بالقرب منه وحركة النقل منه وإليه، وتشجيع من هربوا سابقا من المستثمرين بعد مواجهتهم عثرات بالجملة أخفقت الحكومة في تذليلها.

الاهتمام بالزراعة يتطلب توفير كميات مناسبة من المياه، وهو تحدّ تعاظم مع تشييد إثيوبيا لمشروع سد النهضة وعدم استبعاد حدوث عجز في كمية المياه الواردة إلى مصر، ونقصان في الحصول على حصتها التاريخية المقدرة بـ 55.5 مليار متر مكعب، والتي لا تكفي أساسا لاحتياجات البلاد.

دفع هذا الأمر الحكومة إلى وضع بدائل لاحتمال وجود شُحّ في المياه مستقبلا، وسعت نحو التوسع في مشروعات التحلية من البحر، وإعادة تدوير المياه وإعادة توظيفها، وتقليل الفاقد عبر تبطين الترع والقنوات التي تمد الأراضي الزراعية بالمياه.

تشير معطيات كثيرة إلى أن ثمة تركيزا على الزراعة والمشروعات الملحقة بها، وتصورات جديدة مستمدة من محاولات مستمرة لمعالجة أوجه الخلل في البيئة المحلية، والعمل لتسترد الزراعة هيبتها المفقودة، لأن التمسك بها يعكس وعيا، ويسهم في حل أزمات هيكلية بدأت تتكشف ملامحها مع احتدام أزمة الغذاء في العالم.

تؤكد مشروعات التنمية المتصلة بالزراعة، بعيدا عن تحقيقها الأهداف المرسومة لها من عدمه في المدى المنظور، امتلاك رؤية تقضي بعدم التهاون في إنتاج الحبوب، ومراجعة السياسات المعطوبة التي أدت إلى تجاهل الزراعة، عن عمد أو جهل، حتى وُضعت الحكومة أمام الحقيقة عارية جراء روافد الأزمة الأوكرانية.

يصعب اختزال الزراعة في عناصر الأرض ونوعية المحاصيل وتوافر الإمكانيات التي تساعد في الحصول على نتيجة مرضية، ويمكن تحديد ثلاثة عوامل مهمة إضافية يُظهر منحها الدرجة الكافية من التركيز مدى الوعي الاستراتيجي بالأزمة الراهنة والتخلص من العجز الظاهر في إنتاج الحبوب الزراعية.

العنصر الأول: النظر بإمعان في الجدوى الحيوية التي يمثلها محصول كالقمح، وتتعلق بعلاقته بتحرير القرار السياسي، حيث تداول مصريون وجود فيتو أميركي على زراعته في بلدهم، ورضخت له غالبية الأنظمة السابقة.

وربما يتحول تكذيب الشائعة أو دحض هذه الحقيقة إلى نقطة قوة للنظام الحالي إذا نجح في إنهاء عقدة مختزلة في عقل شريحة من المواطنين، والسعي نحو التوسع بكثافة في الزراعة ومنح القمح أولوية فائقة.

لذلك فالجدوى التي يحققها تتعدى المنفعة الاقتصادية المباشرة والتخلص من أزمة هيكلية تطارد المصريين في يقظتهم ومنامهم، ومع الحديث الإيجابي الذي تروجه بعض وسائل الإعلام حول زيادة الرقعة الزراعية والتفاؤل بإنتاج القمح في المستقبل، وعدم رهن القرار السياسي للدولة بإرادة قوى خارجية، يوضع عنوان الاكتفاء الذاتي من القمح في مرتبة القرارات المصيرية، وقد يكون العكس كارثيا على مصر.

العنصر الثاني: منع تجريف الأراضي الزراعية، فما فائدة استصلاح الصحراء ويستمر الناس في بناء مساكن على أجزاء خصبة تقع على ضفتي النيل ودلتاه، فما ضاع منها في العقد الأخير يتجاوز ما تم استصلاحه في الفترة نفسها، وهي مشكلة تحتاج إلى ما هو أكبر من تحذيرات الهدم وإجراءات التصالح في مخالفات البناء ومسكنات التجاهل، والوصول بها إلى مستوى التجريم وتطبيق القانون على الجميع.

العنصر الثالث: إعادة الاعتبار إلى الفلاح المصري كحلقة جوهرية في المنظومة وتقديم خدمات وافية لتشجيعه على زراعة الحبوب بدلا من الفرار لقلة العائد المادي، فما يتحقق من مردود استراتيجي يفوق القيمة المالية المنتظرة، وهو عنصر يجب أن توليه الدولة عناية كي لا يتسرب ما تبقى ممن يتمسكون بأهداب حرفة الزراعة.

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …