بقلم: رمزي الغزوي – صحيفة “الدستور”
الشرق اليوم – قبل أن أقول إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أهدى نفسه وشعبه عددا من الفيلة البيضاء، التي اندمجت معا لتصير فيلا أبيض واحدا، هو المستنقع الأوكراني بكل أسنه ومرضه وتبعياته. قبل كل هذا، أجدُ لزاماً عليّ أن أقترح طريقة لنقل هذه الكائنات الثقيلة خفيفة الظل، رشيقة المشية، ودامعة العيون من موطنها في مملكة تايلاند «أرض الأحرار» الشرق آسيوية إلى الكرملين في العاصمة موسكو.
لست بصدد اقتراح مجازفة القائد القرطاجي «حنّابعل» حين نقل بصبر وأناة كتيبة من الفيلة عبر جبال البيرينيه بين فرنسا وإسبانيا لمحاصرة روما في شتاء عام 218 قبل الميلاد. بل أراني أستملح حنكة تجارية تستخدمها بعض شركات الطيران الخاصة، إذ تعمد إلى بثّ عدد من الكتاكيت بين أقدام الفيلة في أرضية الطائرة، كي تبقى هادئة متصنّمة مستغلين خصلة الرحمة الرؤوم التي لا تفارقها.
للفيلة مكانة سامية في التراث التايلاندي أبرزها رمزية الفيل الأبيض النادر الوجود، والذي كان ملكاً للملك بحكم القانون. وكما تشير الأسطورة السيامية – سيام هو اسم تايلاند حتى 1949، وتعني الأسود- فقد اعتاد الملك أن يهدي فيلا أبيض لمن يريد أن يدمره ويقصم ظهره وينغص معاشه، من أعضاء حاشيته ومن مواطنيه، كون تكاليف رعاية هذا الكائن باهظة وتحتاج إلى طول نفس ومداراة وتعب مدار الساعة. هي هدية لا تشبه إلا فخّا محكما لا فكاك منه، مع عدم إمكانية ردّها زيادة في التنكيل والتأليم.
حين امتزجت الثقافات الإنسانية قفز مصطلح الفيل الأبيض – رغم أن الفيلة لا تقفز في العادة- وغزا السياسية والاقتصاد والتاريخ والصحافة، وصار يدلُّ على كل استثمار غير مجد، وكل فعل لا أمل في ازدهاره أو نمائه، رغم تكاليفه الباهظة وظلاله الخطرة.
أهدى بوتين نفسه أكثر من فيل أبيض دفعة واحدة. أهداها فرضية أنه رجل الحروب الرابحة دوما، ورجل اللا تراجع حتى ولو عرف خطأه. ولهذا غزا بلدا مستقلا وشرد أهله وعاث فيها تدميرا كفيل غضب في غرفة خزف. ثم أهدى نفسه وشعبه فيلاً أبيض ثانياً يتمثل في مغالطة أن على أوكرانيا ألا تفكر في حلف الناتو، وأن عليها أن لا تخرج من عباءته وتاريخه وأنها ليست إلا كيانا مصطنعا. وأهدى نفسه ثالثا أن هذا الغزو سيمنع دولا أخرى حتى من التفكير في الانضمام للحلف، كفنلندا والسويد اللتين توشكان اليوم على تمام هذا الذي لم يحسب حسابه.
الفيل الأبيض الكبير يكمن في وصفه هذا الاعتداء السافر بالعملية الخاصة السريعة الخاطفة، لكن الثمانين يوما الماضية قالت وستقول كم كان واهيا وفاشلا ذلك الاستثمار بالوهم. هو لم يحسب حسابا للدماء، ولا لموجات اللجوء، ولا لما سيعانيه مواطنوه، وهو ولم يجب عن سؤال الجدوى من وراء كل هذه الحماقة الحمقاء.
الفيلة البيضاء المهداة، التي لا بدّ أن ترتد صاعقة سوداء على رأسه، وعلى شعبه وعلى العالم أجمع، يمكنها اليوم أن تكون فيلا أبيض واحدا يظل ماثلا كرمز لكل حرب غبية مكلفة ظالمة يخوضها رجل مأزوم لم يعرف ما يريد.