بقلم: د. صلاح الغول – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – بعد أنْ تفاءل المراقبون خيراً بانتخاب مجلس النواب الليبي حكومة جديدة برئاسة فتحي باشاغا، وإعلان الأخيرة برنامجها السياسي الذي يركز على التوافق مع كل الأطراف السياسية ووحدة الصف وتجنب إراقة الدماء، ولجت ليبيا في مرحلةٍ جديدة من الصراع السياسي بين الحكومة الجديدة (وداعميها من مجلس النواب والجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر) والحكومة المنتهية ولايتها برئاسة عبد الحميد الدبيبة وداعميها من الميليشيات المسلحة في العاصمة والغرب الليبيين. وأشد ما يُخشى منه أن يتصاعد الصراع بين الطرفين إلى مصادمات مسلحة، كما حدث من قبل في ظل حكومة فايز السراج (2016-2021).
والمفارقة أنّ المجتمع الدولي الذي قاد جهود التدخل السياسي والعسكري في ليبيا منذ العام 2011 ينسحب الآن من المشهد، أو يمارس سياسة «ماكيافيللية» تجاه طرفي الصراع الرئيسين، وينسى أو يتناسى أنّ لديه مسؤولية أخلاقية، قبل أن تكون سياسية، في المساعدة في تسوية الأزمة الليبية. والمقصود بالمجتمع الدولي هنا القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا والدول الغربية، والأمم المتحدة وحلف الناتو.
ولم تكن هذه أول مرة يفعلها المجتمع الدولي في ليبيا أو في دولٍ أخرى من عالم الجنوب. فقد مارس نفس السياسة «الماكيافيللية»، بل وانخرط أعضاؤه في الصراع الأهلي الليبي بعد التوصل لاتفاق الصخيرات عام 2015 برعاية الأمم المتحدة وتوافق القوى الكبرى، برغم الاعتراف بأن الاتفاق لم يلبِّ توقعات الشعب الليبي وأنّ حكومة التوافق تمتعت بسلطة وشرعية محدودتين! وفي أماكن أخرى من دول الجنوب، مثل الصومال وأفغانستان، وبعد فورة من النشاط للتدخل الدولي العسكري فيها لأغراضٍ إنسانية، وبعد فترة طويلة من الصراع الأهلي أعقبت هذا التدخل، انسحب المجتمع الدولي، تاركاً البلاد والعباد لتواجه مصيرها من الحروب الداخلية والإرهاب والأزمات الاقتصادية الطاحنة.
والواقع أنّ السلوك السابق والحالي للمجتمع الدولي تجاه مناطق الصراعات الإقليمية، ولاسيما تلك التي شهدت تدخلاً عسكرياً من جانب القوى الكبرى، ينقض أهم الأسس التي قام عليها هذا النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو التوافق بين القوى الكبرى ومسؤوليتها السياسية والأخلاقية في تسوية الصراعات والأزمات التي تهدد الأمن والسلم الدوليين، ويثير علامة استفهام كبرى حول شرعية هذا النظام.
وبالعودة إلى المشهد الليبي الراهن، نجد أنّه يمثل خسارة صافية لكل الأطراف الداخلية والخارجية. فالشعب الليبي يعاني انعكاسات الصراع السياسي بين الحكومتين، والأزمة الاقتصادية تزداد وطأتها، والميزانية الحكومية لم تُفعّل، والمشروعات والخدمات الاقتصادية والاجتماعية مجمدة تقريباً، والفساد السياسي يتنامى تغوله، والميليشيات يتصاعد نفوذها في الغرب. كما أنّ المجتمع الدولي متضرر من هذا الوضع نتيجة الهجرة غير المشروعة، وتوقف إنتاج النفط الليبي، وتجمد عملية إعادة الإعمار، وزيادة مستوى عدم الاستقرار السياسي في واحدة من أهم دول جنوبي المتوسط.
واستناداً إلى متابعتي الدقيقة للشأن الليبي وتواصلي مع مختلف الأطراف السياسية، أكاد أجزم أنّ التوافق بين مجلس النواب ومجلس الدولة والحكومة المنتخبة والحكومة المنتهية ولايتها هو مفتاح تسوية الأزمة الليبية، وأنّ ذلك التوافق لن يتم إلا بتدخل المجتمع الدولي، عن طريق مبادرة سياسية شاملة تطرحها الأمم المتحدة، وتتوافق عليها القوى الكبرى. ولا يزعمن أحدٌ أنّ الصراع الأوكراني، الذي يستحوذ على جلّ اهتمام الأعضاء الفاعلين في المجتمع الدولي، يمثل عقبة أمام إسهامه في تسوية الأزمة الليبية. فالحقيقة أن الصراع الأوكراني يمثل فرصة للتوافق بين القوى الكبرى والأمم المتحدة والدول الإقليمية على تسوية ملائمة للأزمة في ليبيا؛ نظراً لأن مستوى الاهتمام والتنافس بينها هناك انخفض حالياً؛ ما قد يمهد الطريق لحلول وسط مبتكرة في ليبيا.
والخلاصة أنّ المجتمع الدولي لديه فرصةٌ في ليبيا، ينبغي ألا يفلتها، تتصل بإعادة ترميم هيكله (النظام الدولي) الذّي تهدم أو كاد بسبب الصراع بين القوى الكبرى، واستعادة شرعيته وثقة شعوب الجنوب فيه. وإذا لم تُغتنم هذه الفرصة، فقل على النظام الدولي السلام، وعلى ليبيا الأحزان. وحينها، ينعقد الأمل على الدول الإقليمية الرئيسية، وعلى رأسها مصر وتركيا والإمارات وقطر، أنْ تبادر بتسويةٍ شاملة للأزمة الليبية قبل أنْ تنفجر في صورة صراعٍ مسلح بين الأطراف والميليشيات الليبية، بما يتضمنه ذلك من خسارة مشتركة للجميع. ولعل التقارب السياسي بين الدول الأربع، بالإضافة إلى السعودية، يدفع هذا الضوء، الذي انتظره الشعب الليبي طويلاً، إلى نهاية النفق المظلم. ويقولون متى؟ قل عسى أنْ يكون قريباً!