بقلم: أزراج عمر – النهار العربي
الشرق اليوم – في إطار مبادرة “لمّ الشمل” شرع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، خلال الأسبوع الماضي، بمشاورات مفتوحة مع مجموعة من رؤساء أحزاب الموالاة والمعارضة منهم، مثلاً، رئيس حزب “جبهة التحرير الوطني” بعجي أبو الفضل، ورئيس “حركة مجتمع السلم” (حمس) عبد الرزاق مقري، ورئيس “حزب المستقبل” عبدالعزيز بلعيد، وكذلك وزير الاتصال السابق عبدالعزيز رحابي وغيرهم. ومن المنتظر أن يواصل في الأسابيع القادمة هذه المشاورات مع سياسيين آخرين مثل رؤساء المجالس العليا، وشخصيات من المجتمع المدني المنتمين إلى المنظمات الجماهيرية والجمعيات والروابط والهيئات المهنية التي يغلب عليها التأطير البيروقراطي.
ويلاحظ أن مبادرة “لمّ الشمل” التي يعمل الرئيس الجزائري على تفعيلها ميدانياً ظهرت إلى السطح في هذا الوقت بالذات لأسباب سياسية معروفة في مقدمها إحساس أجهزة الدولة العليا بازدياد نشاط أحزاب معارضة ما فتئت ترفض سياسات الاحتواء مثل حزب “التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية” (الآرسيدي) فضلاً عن وجود خطر محدق يمكن أن يتسبب به ناشطون سياسيون جزائريون يعيشون في دول أجنبية توفر لهم الحماية لممارسة المعارضة بقوة ومن بعد من خلال منصات وسائط التواصل الاجتماعي التي تساعدهم على تحريك جماعاتهم داخل الجزائر بطرق مختلفة.
من المعروف أن النظام الجزائري صنَف بعض هؤلاء الناشطين السياسيين في خانة الإرهاب ويطالب في الوقت نفسه الدول الأجنبية التي يقيمون فيها، وبخاصة فرنسا، بتسليمهم لمحاكمتهم في المحاكم الجزائرية.
في ظل هذه التحركات التي ينفذها النظام الجزائري بقصد تكريس أحزاب الموالاة، وترويض أحزاب المعارضة، وتطويق ملل التيارات والعناصر التي ترفض بشكل راديكالي هذا النظام الحاكم، يمكن للمراقب السياسي أن يفهم بسرعة لماذا لا يوجد هناك أي انفتاح يذكر من طرف رئاسة الجمهورية والجهات الرسمية التي تشاركها في تنفيذ مبادرة “لمّ الشمل” على الشخصيات المثقفة الراديكالية والأساسية وذات المصداقية والشهرة في الأوساط الشعبية ضمن الفضاء العام للحياة الفكرية والثقافية والفنية والأكاديمية الجزائرية، سواء أكان هؤلاء مقيمين في الجزائر أم في المهاجر الأجنبية.
وفي هذا الخصوص ينبغي أن ندرك، من جهة أخرى، أن السلطات الجزائرية لا تقيم وزناً لجزء كبير من شريحة المثقفين، ويرجع ذلك جزئياً إلى هشاشة هؤلاء وسلبيتهم كما سنوضح لاحقاً.
في هذا المشهد الجزائري العام يلاحظ المراقب السياسي كثرة المثقفين الجزائريين الذين يختزلون مهمتهم في التموقع السياسي بدلاً من القيام بالتحليلات العلمية والجريئة للمشكلات المحورية والمزمنة التي تعاني منها الشرائح الاجتماعية التي تعيش تحت خط الفقر المادي أو الثقافي من أجل إيجاد حلول ناجعة لها. وفي الواقع فإن السلوك السلبي يساهم في تأزيم الواقع الجزائري الذي لم يقدر منذ الاستقلال إلى يومنا هذا أن يفرز مشروعاً قادراً على تأسيس الدولة الحديثة والعصرية المنشودة على المستوى المادي والثقافي والفكري والجمالي.
نعم، هناك عدد قليل جداً من الأشخاص الذين يمكن أن ينطبق عليهم مصطلح المثقف داخل هياكل أحزاب الموالاة والمعارضة وفي النقابات ومؤسسات الدولة، ولكن وجود هؤلاء في هذه الهياكل تعوزه الفاعلية في الغالب ويتصف نتيجة لذلك، إما بالانغماس في التماهي مع أجهزة الحكم التقليدية السائدة وإما بالرفض المطلق لها من دون ابتكار البدائل.
من الملاحظ أن معظم ما يصدر عن هؤلاء هو إما إعادة إنتاج لخطابات الصراعات الفوقية على السلطة، أو ترجمة للعبارة الأثيرة القائلة بأن الشاعر الجزائري لا يكتب إلا قصيدتين اثنتين طوال حياته، واحدة في مدح الملك وأخرى في طلب عفوه.
وفي الحقيقة، فإن ظاهرتي سلبية المثقفين وهشاشتهم في المجتمع الجزائري ليستا حدثين طارئين، بل هما نتاج وعرض متزامنين لسيادة ذهنية قديمة في مدوَنة تاريخ الحياة السياسية الجزائرية الطويل، وتتمثل هذه الذهنية جوهرياً في توجس السلطة من المثقفين أولاً أو اعتبارهم ثانياً إما طابوراً خامساً تابعاً لها ولمؤسساتها المختلفة أو مجرد أفراد ثانويين يسلبهم الدافع الحيوي الذي هو شرط صنع التغيير الجذري في الحياة الوطنية.
وفي الواقع هناك في الجزائر عداء تاريخي بين المثقفين وبين المسؤولين في مختلف أجهزة الحكم. ففي مرحلة الكفاح التحرري، مثلاً، كان حامل السلاح هو صاحب القرار السيادي على المناضل المثقف، حتى وإن كان هو نفسه مسلحاً أيضاً والدليل على ذلك هو رفض تسليم شؤون القيادة للسياسيين المدنيين المثقفين.
وفي هذا الخصوص ينبغي التذكير بأن مثقفين مرتبطين عضوياً بحركة التحرر الوطني تعرضوا للإنكار والإلغاء وذبح البعض منهم جرّاء اتهامهم بالتطرف اليساري، كما تعرّض غيرهم لشتَى أنماط الوصاية أو للتصفية الجسدية أيضاً.
وفي هذا الصدد أبرز المفكر الجزائري مصطفى الأشرف الذي هو أحد الزعماء الخمسة في “حركة التحرر الوطني الجزائري” في كتابه المعروف “الجزائر: الأمة والمجتمع”، أن السياسيين المدنيين أبعدوا عن مواقع القيادة والصدارة، كما بيَّن بوضوح أن “جبهة التحرير الوطني” حوّلت إلى مجرد واجهة، وزيادة على هذا فإن كثيراً من مثقفي “حركة التحرر الوطني” تعرّضوا للقتل مثلما حدث للمجاهد المثقف عبَان رمضان.
أما في الوقت الراهن فإن الوضع الهامشي للمثقفين الجزائريين في الحياة السياسية هو ثمرة لعدة عوامل منها على سبيل المثال تماهيهم مع أيديولوجيا الكفاح التي تتبناها السلطة أو مع أيديولوجيا مستوردة من تجارب ثقافية وسياسية أجنبية. ففي هذا المناخ سادت سياسات احتواء مؤسسات المجتمع المدني التي يفترض أنها فضاء الحرية الذي يتحرك ويبدع فيه المثقفون، وجراء ما تقدم فقد حولت النقابات والمنظمات الجماهيرية ومختلف الاتحادات والروابط الأدبية والعلمية والثقافية والفنية والمهنية إلى وكالات تنفذ ما يملى عليها من فوق بدلاً من جعلها معاقل يمارس فيها الإبداع والتأسيس لفكر الدولة الحديثة المتطورة وثقافتها.
ومن الواضح للعيان أن الجزائر لم تؤسس حتى الآن تقليد المثقفين الذين يفكرون ويشرّعون للدولة، ويلعبون أدواراً محورية في تشكيل سجل ثقافة الرأي العام الشعبي وفي تثقيف الأحزاب السياسية والسياسيين بأخلاقيات الحكم الديموقراطي.
وهل لهذا السبب قال لي عنهم يوماً الرئيس الراحل هواري بومدين بصيغة المفرد الذي يعني الجماعة، وذلك في اللقاء الذي جمعني به لمناسبة حضور عدد من الأدباء العرب مؤتمر الأدباء العرب الذي انعقد في الجزائر في عام 1975 ومنهم يوسف السباعي، بأن “المثقف الجزائري ينقل عن الشعب خطأ وينقل عن السلطة خطأ؟”.