بقلم: فارس خشان – النهار العربي
الشرق اليوم – تدنّت نسبة الإقتراع في كلّ لبنان حتى كادت تصطدم مشروعية الانتخابات النيابية بخط الخطر.
في دورة العام 2018، كانت نسبة الاقتراع 49,68 بالمائة وتدنّت في هذه الدورة إلى 41,04 بالمائة.
وكان لافتاً للانتباه أنّ تدني نسبة الاقتراع وصلت إلى صلب البيئة التي يسيطر عليها “الثنائي الشيعي” الذي فعل المستحيل لرفع نسبة المقترعين إلى أعلى مستوى ممكن، لأنّ ذلك كان من شأنه أن يُحقّق له الهدف السامي الذي أعلنه الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله: “إنجاح حلفائنا، لأنّ المعركة ليست ضدّ الحزب فقط بل لأخذ حصص من الحلفاء في جبيل وكسروان والشوف وعاليه وفي كلّ الدوائر”.
ولكنّ تدنّي نسبة الإقتراع في بيئة “الثنائي الشيعي” إلى ما دون المرتجى، أسقط تعهّد نصرالله، إلى حدّ كبير، فخسر حلفاؤه حتى في عقر داره، ممّا أخسر “حزب الله” الأكثرية النيابية التي كان قد حصل عليها في دورة العام 2018.
ولا يمكن نسب هذا التراجع الكبير في نسبة الاقتراع، بعد الإطلاع على نوعياته المختلفة، إلى قرار مقاطعة العملية الانتخابية الذي ذهب إليه “تيّار المستقبل”، فحسب بل يُفترض أيضاً إعطاء مصداقية عالية لما يؤكّده اختصاصيون في العلوم السياسية والاجتماعية أنّ هناك فئة واسعة من اللبنانيين “يائسة” من إمكان أن يُنتج النظام اللبناني أيّ إيجابيات، إعتقاداً منها بأنّ الطبقة السياسية نفسها تتناوب على المناصب، وبأنّ القوى التغييريّة لا تملك قدرات تنفيذ “وعودها الفضفاضة”، وبأنّ القرار سيعود، بالنتيجة، إلى حيث يريد “حزب الله” الذي “يستحيل أن يرضخ لإرادة الشعب والأكثريات التي يُنتجها”.
ولا يجانب الصواب كلّ من يعرب عن اعتقاده بأنّه لولا المشاهد المثيرة التي سجّلها تدفّق المغتربين في عدد من الدول، لكانت نسبة اقتراع المقيمين قد تدنّت إلى ما دون عتبة الأربعين بالمائة، بكثير.
ويشكّل هذا الإحجام الشعبي عن المشاركة في الانتخابات النيابية، على الرغم من أنّها الإستحقاق الأهم في النظام اللبناني، التحدّي الأبرز لفئتين أساسيتين خرجتا منتصرتين: القوى السياسية التي ترفع الشعارات المناوئة لـ”حزب الله”، وقوى المجتمع المدني التي ترفع الشعارات المناوئة للطبقة السياسية، بصفتها طبقة المحاصصة والإفساد وتبادل المصالح الضيّقة على حساب المصلحة الوطنية العليا.
وعليه سوف يراقب اللبنانيون أداء هاتين الفئتين، فإن أحبطتاهم، فهذا يمكن أن يؤدّي إمّا إلى عودة إلى الشارع بدعم من القوى السياسية المتضرّرة من نتائج الانتخابات، حيث يتكرّر سيناريو 17 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019، من دون أن يواجهه، هذه المرّة، قمع تحالف “حزب الله” والتيّار الوطني الحر، أو إلى دفع فئات جديدة نحو نبذ السياسة والامتناع كلّياً عن المشاركة في أيّ استحقاق ديموقراطي مقبل.
وإذا كانت غالبية النوّاب الذين أنتجهم “الهوى التغييري” في لبنان، سوف يبقون، أقلّه في المرحلة الأولى، بعيداً عن “إئتلاف سلطوي” تسيطر عليه الطبقة السياسية ويسجّلون أنفسهم في خانة المعارضة حتى تتبلور اتجاهاتهم النهائية ويكتسبون ما يلزم من خبرة عن “روما من تحت” التي تختلف كلّياً عن “روما من فوق”، فإنّ المشكلة الأساس سوف تطرح نفسها عند حزب “القوات اللبنانية” الذي انتزع الأغلبية الشعبية المسيحية من “التيّار الوطني الحر” وساواه بعدد النوّاب، خصوصاً أنّه سيكون تحت مراقبة شديدة ولصيقة من الأحزاب والقوى والشخصيات التي تتقاطع معه في الشعارات المناوئة لسلاح “حزب الله” وارتباط أجندته بالأجندة الإيرانية، وتتصارع معه في السياسة.
وعليه، فإنّ حزب “القوات اللبنانية” سوف يُواجه، بفعل حجمه الجديد، إشكاليات كبيرة في صناعة قراراته، فهو العمود الفقري في انتزاع الأكثريّة النيابية المريحة من منظومة “حزب الله”، وتالياً عليه التفكير كثيراً، في ظلّ الوقائع المالية والإقتصادية والإجتماعية المأساوية، في الإتجاه الأجدى لإنقاذ لبنان واللبنانيين.
ومشكلة حزب “القوات اللبنانية” أنّ “حزب الله” الذي جدّد مع تابعته “حركة أمل”، ولو بلجوئه إلى توسّل أساليب غير ديموقراطية في بعض الأحيان، احتكار تمثيل الطائفة الشيعية، لن يرضى بترك أيّ ائتلاف نيابي مكوّن من الأكثرية الجديدة، يشكّل حكومة لا يكون هو فيها، وبالشروط التي تناسبه، كما أنّه لن يقبل بأن يشكّل هو، من خلال أكثرية يمكن أن يستميلها، حكومة من دونهم، لأنّه يعرف أنّ أيّ حكومة يُمكن وصفها بأنّها “حكومة حزب الله” سوف تفشل وتالياً سوف تتلقى غضب اللبنانيين الذين قد ترميهم الأوضاع المحليّة والإقليميّة والدوليّة، في أتون الجوع.
وهذا يعني أنّ حزب “القوات اللبنانية” وأشباهه عليهم أن يختاروا بين أخذ البلاد إلى مواجهة سياسية مفتوحة مع “حزب الله” يمكن أن تنحرف إلى مشهديّة اشتباكات الطيّونة التي أحيت شبح الحرب الأهليّة، وبين تسوية مع “حزب الله” من الصعب أن تكون مختلفة كثيراً عن التسويات التي جرّت على الرئيس سعد الحريري غضباً محليّاً وإقليميّاً، من دون أن تتمكّن من منع رمي لبنان في الجحيم، الأمر الذي دفعه إلى اتّخاذ قرار مقاطعة الانتخابات في خطوة تركت ارتياحاً عند “حزب الله” نظراً لاعتقاده بأنّ تداعياتها ستكون أكثر سلبية على خصومه ممّا ظهرت عليه.
وليس من باب المبالغة الإعتقاد بأنّ الخلفيّة التي جعلت الناخبين يمنحون حزب “القوات اللبنانية” كتلة نيابية كبرى في المجلس الجديد، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بانطباع راسخ عن إمكان ذهابه إلى اعتماد خيار المواجهة.
ومن يُدقّق في الموقف الذي أعلنه، أمس النائب محمّد رعد يفهم أنّ “حزب الله” يوجّه رسالة باكرة جدّاً عن استعداده للتوجّه إلى حيث تتطلّب أيّ مواجهة محتملة.
وقد قال رعد مستهدفاً بالأخص حزب “القوات اللبنانية” و”حزب الكتائب” وحليفته “حركة الإستقلال”، مستعملاً أدبيات التخوين والتهديد:” نرتضيكم خصوماً في المجلس النيابي، ولكن لن نتقبّلكم دروعاً للإسرائيلي ولمن وراء الإسرائيلي. لا تكونوا وقوداً لحرب أهلية يقودكم إليها الإسرائيلي”.
ولكن هل يملك حزب “القوات اللبنانية” وأشباهه عدّة المواجهة السياسية، في هذه الظروف المأساوية؟
في الواقع، إنّ الجواب عن هذا السؤال مرتبط بالمعادلات التي يمكن أن يعتمدها جعجع نفسه، بالإستناد إلى معطيات عدّة ومن بينها معطى الإستحقاق الرئاسي الذي سوف يُفتتح على مصراعيه، بعد أيّام قليلة، على اعتبار أنّ ولاية الرئيس ميشال عون، تنتهي في الحادي والثلاثين من تشرين الأوّل (أكتوبر) المقبل.
ولكن، ممّا لا شكّ فيه أنّ المواجهة السياسية مع “حزب الله” مكلفة للغاية، نظراً لانعكاساتها المالية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وتالياً هل إنّ القوى الإقليمية والدولية التي ترفض مساعدة لبنان إن لم يُضعِف هيمنة “حزب الله” عليه، مستعدّة لدعم الشعب اللبناني حتى لا يكون “لقمة سائغة” لهذه المواجهة، ولتعزيز قدرات القوات المسلّحة اللبنانية وقوى الأمن الداخلي حتى تتصدّى لإمكان انحراف المواجهة السياسية إلى مواجهات عسكريّة؟
من دون شك إنّ إعادة لبنان إلى المعادلات التي تحكّمت به، منذ “تفاهم الدوحة”، لا يمكن أن تُنتج إيجابيات بعدما كان قد رصف الطريق إلى الجحيم، ومن دون شك أيضاً لا بدّ من فعل المستحيل لدفع “حزب الله” إلى إدخال تعديلات جذرية إلى نظرته لدور لبنان عموماً ولدوره فيه خصوصاً.
وتحقيقاً لهذه الغاية لا بدّ من توفير قدرات الصمود، فـ”حزب الله”، باعتراف الجميع، وبفعل التمويل الإيراني أوّلاً، نجح، بأضعف الإيمان، في الحدّ من الخسائر التي أصابت الجميع، وتالياً يستحيل الذهاب إلى مواجهة سياسية مكلفة للغاية معه، من دون توفير الحدّ الأدنى من التكافؤ.
على أيّ حال، إنّ أوّل اختبار للمنحى الذي سوف يسلكه حزب “القوات اللبنانية” وأشباهه سوف يتمثّل في انتخاب رئيس المجلس النيابي.
الرئيس الحالي نبيه برّي هو المرشّح لخلافة نفسه بدعم من “حزب الله”، فهل سوف تنتخبه الأحزاب “السيادية”، خصوصاً وأنّ برّي هو “الأقوى في طائفته”، وهي معادلة من مصلحة “القوات” صونها وحفظها نظراً لانعكاساتها الإيجابية عليه؟
إذا صوّت نوّاب “القوات اللبنانية” لبرّي، بناء على تقييم داخلي، فهذا يعني سقوط سيناريو المواجهة، وفي حال طلب هؤلاء حواراً مع برّي يتم على أساسه تحديد وجهة التصويت، فهذا يعني اعتماد نهج جديد في البلاد: توافق بأفق مستقبلية يجنّب المواجهة.
والتوافق المنطقي الذي يمكن أن يطالب به حزب “القوات اللبنانية” لا يقوم على معادلة أسلوب إدارة المجلس النيابي نفسه، بل على معادلة التوجّه الذي سوف يعتمده “الثنائي الشيعي” في انتخابات رئاسة الجمهورية، فالتصويت لمصلحة برّي ممكن إذا كان هناك استعداد موثّق للسير مع رئيس الحزب سمير جعجع، في الانتخابات الرئاسية.
وفي حال حصل هذا التوافق، فإنّ دخول حزب “القوات اللبنانية” إلى الحكومة الجديدة، بما يتناسب وحجمه النيابي، يُصبح مرجّحاً، وتالياً تكون خارطة الطريق إلى تجنّب المواجهة قد رُسمت.
ولكن هناك صعوبة في إمكان التوصّل إلى هذا السيناريو الإيجابي، لأنّ “حزب الله”، وفق المعطيات الحالية، يستحيل أن يُعطي جعجع ما يريده، لأنّه يعتبر أنّ حزب “القوات اللبنانية” يُضمر أهدافاً استراتيجيّة تتعارض كلّياً مع أهدافه الإستراتيجية الخاصة.
إنّ التفاهم العلني الذي ربط “حزب الله” بالعماد ميشال عون، ومن ثمّ التفاهم الضمني الذي كان قد توصّل إليه مع الرئيس سعد الحريري، لن يكون، على الأرجح، ممكناً مع “زعيم معراب”، إلّا إذا حصلت “معجزة” من شأنها أن توصل إيران التي يرتبط “حزب الله” بها والمملكة العربية السعودية التي يتمسّك جعجع بدعمها، إلى اتفاق يشمل لبنان.
محق كلّ من يعتقد بأنّ مرحلة ما بعد الانتخابات ستكون صعبة للغاية، ولكن ليس مخطئاً أبداً من يؤكّد أنّ لبنان قبل 15 أيّار (مايو) 2022 كان في هذه الوضعية، وتالياً فسقوطه حتمي إذا جرى إحياء المعادلات السابقة، ولكنّ إنقاذه ممكن إذا نجحت محاولة إدخال تعديلات على سلوك “حزب الله” الذي بات محاصراً من دعاة بناء الدولة، من جهة نواب التغيير، ومن دعاة إنهاء سطوته المسلّحة، من جهة نوّاب “السيادة”.