بقلم: يوسف بدر – النهار العربي
الشرق اليوم – هللتْ طهران فرحاً لرحيل الرئيس الأميركي السابق الجمهوري دونالد ترامب. فقد أطلقتْ على ولايته الفترة “الترامبية”؛ بسبب ما واجهته من صعوبات في عهده؛ إذ خرج من الاتفاق النووي، وفرض عليها سياسة أقصى ضغط من العقوبات، وسمح لإسرائيل باستهدافها في الداخل ضد منشآتها الحيوية والنووية. وتصاعد الأمر، إلى درجة استهداف أحد قادتها العسكريين، قاسم سليماني، الذي يقود العمليات في الخارج تحت لواء “فيلق القدس”، والذي منح السياسية الخارجية لإيران مفهوم دبلوماسية الميدان.
ومع ذلك، اتبعت طهران سياسةَ الصبر الاستراتيجي، انتظاراً منها لما ستسفر عنه نتائج الانتخابات الرئاسية في أميركا، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2020. وبالفعل وصل الرئيس الديموقراطي جو بايدن، وبمجيئه ارتفعت قيمة العملة الإيرانية مقابل الدولار؛ إذ أمل الإيرانيون بفوزه بالعودة للاتفاق النووي ورفع العقوبات.
لكن الحكومة الإيرانية لم تجنِ ثمار هذا الصبر بعد، ولم تنجح في التوصل إلى اتفاق نهائي خلال محادثات العودة للاتفاق النووي، المتوقفة منذ آذار (مارس) الماضي؛ بسبب تبادل الكرة بين ملعبي واشنطن وطهران.
والآن، لماذا لا تسأل طهران نفسها، ماذا بعد رحيل بايدن؟
إنها تعرف أن مجيئه كان بمثابة طوق نجاة لها؛ لأنها كانت ستواجه أياماً أصعب، إذا فاز ترامب بولاية ثانية.
وتدرك طهران أيضاً أنها الآن أمام فرصة ذهبية، وأن الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة في 2024، لن تكون في مصلحة جو بايدن؛ لأن ظروفه الصحية لن تساعده على الفوز بولاية ثانية.
وعلى طهران أن تقلق من عودة الجمهوريين إلى البيت الأبيض؛ لأن العداء تجاه طهران جزء من إدارتهم وبرنامجهم الانتخابي. فقد كتب مارك إسبر، وزير الدفاع الثاني والأخير في عهد ترامب في مذكراته، إن الرئيس كان يعتزم القيام بعمل كبير ضد إيران.
وقد بدأ الجمهوريون الدعاية لانتخابات تجديد الكونغرس في تشرين الثاني (نوفمبر) 2022، وهم يسعون إلى الفوز بالسيطرة على مجلس واحد على الأقل من الكونغرس؛ بما يمنحهم القدرة على وقف الأجندة التشريعية للرئيس بايدن. بل أن ترامب نفسه يقود حملة لدعم فوز الجمهوريين في الولايات الأميركية.
ولا يزال الجمهوريون يحافظون على أدبياتهم السياسية؛ فالعداء مع روسيا والأزمة في أوكرانيا، والتصدي لتهديدات إيران وميليشياتها، والقلق الأوروبي من مسألة تأمين الطاقة، ومحاصرة تمدد الاقتصاد الصيني، ومخاوف الداخل الأميركي على مستقبل اقتصاده وانخفاض عُملته، أرضية خصبة لالتفاف الأميركيين مرة أخرى حول الجمهوريين، ونسيان أحداث اقتحام مبنى الكابيتول في 6 كانون الثاني (يناير) 2021، التي أخافتهم على مستقبل بلادهم.
حكومة مكبلة اليدين
إن إصرار طهران على مطلب شطب اسم “الحرس الثوري” من قائمة الإرهاب، من أجل الموافقة على العودة إلى الاتفاق النووي، الذي هو أحد الخطوط الحمر المعرقلة لمسار المفاوضات حالياً؛ دليل على أن حكومة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، هي حكومة مكبلة اليدين؛ لأنها رفضتْ حتى القبول بحلّ الفصل بين أجنحة “الحرس الثوري”، ما بين الاقتصادي والعسكري، على غرار “حزب الله” في لبنان.
وهذا يدل على أن حكومة رئيسي عاجزة عن تجاوز قوى الضغط في الداخل، وعلى رأسها “الحرس الثوري”، وصقور المحافظين الذين باتوا يتعاملون مع حكومة رئيسي التي دعموا وصلوها، بنوع من التوبيخ والاتهام بالفشل، بخاصة على مستوى وزارة الخارجية التي يقودها حسين أمير عبد اللهيان، والذي تراجع عن تصريحات سابقة بإمكان تجاوز مسألة “الحرس” لحل معضلة المحادثات؛ بعد اتهامات وضغوط من المحافظين.
ويبدو أن أوروبا بعثت بمساعد وزير خارجيتها، إنريكي مورا، إلى طهران، ثلثاء الأسبوع الماضي، ليوصل رسالة إلى مسؤولين خارج الحكومة تحثهم على تجاوز عقبات العودة إلى الاتفاق النووي والتعامل بنوع من الواقعية مع المحادثات. فقد صرح المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، خطيب زاده، أن مورا طلب لقاء مسؤولين آخرين من دون أن يُسميهم. وربما منهم علي شمخاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، وممثل المرشد الأعلى علي خامنئي، الذي يشارك الخارجية في إدارة ملف المحادثات النووية، والذي قال بعدها: “إن الاتفاق النووي في المتناول والكرة في ملعب الولايات المتحدة وأوروبا”.
طهران قلقة من الإبقاء على اسم “الحرس الثوري” ضمن قائمة العقوبات؛ نظراً إلى كونه لاعباً أساسياً في الاقتصاد الإيراني؛ ما يحرم إيران من الاستفادة من المكاسب الاقتصادية لرفع العقوبات. ولكن في الحقيقة، يقف وراء هذا التفكير صقور المحافظين و”الحرس الثوري”، الذين يسعون إلى التهام مكاسب ما بعد رفع العقوبات، التي أفرزت وجودهم وعززته.
خرافة الاقتصاد المقاوم
يكرر المسؤولون في حكومة رئيسي الحديث عن قدرة بلادهم على تخطي العقوبات، وأن هذه الحكومة قادرة على حل معضلة الاقتصاد من دون الحاجة للعودة إلى الاتفاق النووي ورفع العقوبات، وذلك تحت شعار “الاقتصاد المقاوم”، الذي سيكون مع مرور الوقت فرصة لتحقيق إيران الاستقلال الاقتصادي.
وبعد السباق على الطاقة جراء الأزمة في أوكرانيا واضطراب تدفقات الطاقة الواردة من روسيا، وارتفاع أسعار النفط، بدأت طهران تشعر بأن هذه الأجواء تساعدها على تحمل تبعات العقوبات الأميركية لوقت أطول؛ بعد نجاحها في تصدير كميات كبيرة من النفط إلى آسيا.
لكن واقعياً، فإن هذا الشعار مجرد وهم؛ فلا يمكن تحقيق الاستقلال الاقتصادي في ظل هيمنة المؤسسات السيادية على الاقتصاد في إيران. وكذلك، في ظل الأزمات التي تهدد الأمن القومي، والتي منها ارتفاع مستوى الجفاف ونقص المياه وتناقص الرقعة الخصبة للزراعة والرعي. وهي أزمات تحتاج إلى تكنولوجيا حديثة للقدرة على حلها.
ومعظم هذه التصريحات التي يطلقها المسؤولون مجرد شعارات سياسية يطرحها النظام لتهدئة الرأي العام في الداخل.
وكذلك، الموقف الذي تتخذه روسيا والصين من المفاوضات النووية وخشيتهما من انتقال إيران إلى المعسكر الغربي؛ يدل على أن حكومة طهران لا تزال خاضعة لسياسة البلدين المناوئين للولايات المتحدة، وأن الاقتصاد المقاوم ما هو إلا بيع النفط بثمن بخس للصين، من أجل إثبات التحدي تجاه العقوبات الأميركية.
وحالياً، تلجأ حكومة رئيسي إلى اتباع سياسة حكومة الرئيس الأسبق أحمدي نجاد، من خلال الخطاب الشعبوي، ورمي المسؤولية على الحكومات السابقة، وتوسيع دائرة الإعانات المعيشية؛ لمواجهة ارتفاع مستوى التضخم والفقر وغلاء الأسعار ونقص السلع الأساسية، فضلاً عن موجة الاحتجاجات التي تفشت في المحافظات الإيرانية لا سيما المهمشة منها، رفضاً للنظام ولأداء الحكومة الاقتصادي وسياستها في إعادة توجيه مصارف الدولار الرسمي، ولصعوبة المعيشة وغلاء الأسعار.
كل ذلك دليل واضح على أن سياسة حكومة رئيسي لن تجني إلا فقدان المزيد من ثقة المواطن الإيراني، ولسوف تكرر خطأ سياسة أحمدي نجاد الذي اتبع سياسة التفاوض من أجل التفاوض لا أكثر.
محصلة
في حالة عودة الجمهوريين إلى البيت الأبيض بعد رحيل بايدن؛ فإن شبح الحرب والعقوبات سيحلق من جديد على رأس إيران؛ إذا ما فشلت محادثات العودة للاتفاق النووي.
إن إصرار طهران على امتلاك الضمانات الكافية من إدارة بايدن، بعدم تكرار خطأ ترامب مستقبلاً بالخروج من الاتفاق النووي؛ أمر يصعب على إدارة بايدن تحقيقه؛ بسبب معارضة الكونغرس. وأيضاً حجة غير مبررة من النظام الإيراني أمام شعبه الذي يئن من وطأة العقوبات؛ لأن إيران لن تجني أسوأ مما يعانيه شعبها الآن، في حال فشل الاتفاق مجدداً.
التظاهرات التي تعم إيران في الوقت الراهن، والتي يمكن أن تأخذ منحى آخر؛ هي نتيجة لسياسة النظام الذي يدير السياسة الخارجية وفق حسابات القوى الداخلية على حساب الشعب. والتوبيخ الذي قدمه المحافظون في البرلمان لوزير الخارجية، على فشله في إدارة دبلوماسية المياه مع أفغانستان وتركيا؛ لمواجهة مشكلة الجفاف والغبار ونقص المياه دليل على عدم قدرة هذا النظام على الاعتراف بأخطائه التي فاقت أخطاء الشاه الذي أطاحت به ثورة 1979.