بقلم: رفيق خوري – إندبندنت عربية
الشرق اليوم – السخرية معبرة جداً، وإن كانت نوعاً من الكاريكاتير للواقع. ومن باب السخرية التي تعلمها الأميركيون من الإنجليز كان الرئيس ليندون جونسون يقول عن نظيره جيرالد فورد إنه “لا يستطيع أن يمضغ العلكة ويمشي في الوقت نفسه”. والمقصود هو العجز عن فعل أمرين في وقت واحد. ومن باب تصوير الواقع، فإن هذا ينطبق على أميركا وسياستها في الخارج.
أميركا الدولة العظمى التي لديها قيادات عسكرية في كل قارة، وقواعد وجيوش في بلدان عدة، واهتمامات كونية بكل شيء، تبدو في أمور محددة كأن عقلها “ذو بعد واحد”. وأميركا التي تباهت بتحقيق استراتيجية لخوض “حربين ونصف حرب” في وقت واحد؛ أي خوض حربين مع قوتين كبيرتين وحرب مع قوة متوسطة، تتصرف كأنها عاجزة عن التفكير والتدبير في أمرين معاً. فحين تركز على هدف، تستخدم كل الأوراق والأسلحة وتطوع كل السياسات لخدمته، وتهمل الأمور الأخرى إلى حين، أقله على صعيد المستوى القيادي.
هذا ما فعلته خلال الحرب الباردة والصراع بين الجبارين؛ كل شيء من أجل استراتيجية “الاحتواء” للاتحاد السوفياتي. لا حساب لخطابها عن القيم والمثل وحقوق الإنسان والديمقراطية. ولا أولوية تتقدم على دعم من وما يعادي موسكو. نظمت انقلاب الجنرال سوهارتو في إندونيسيا على الرئيس الاستقلالي سوكارتو وارتكاب مذبحة راح ضحيتها نصف مليون يساري. ودعمت موضة الانقلابات العسكرية في أكثر من بلد، بينها الانقلابات في تركيا. سلحت ومولت “المتطرفين” ضد السوفيات في أفغانستان، ومعهم أسامة بن لادن زعيم “القاعدة” ثم “طالبان” قبل أن تحتل البلد بعد “غزوة نيويورك”. حتى عندما انسحبت من أفغانستان، لم تترك وراءها حكومة، ولا أخذت في الاعتبار أي اهتمامات لأحد باستثناء سلامة جنودها.
هكذا فعلت أميركا “الإيرانية” خلال التفاوض مع ملالي إيران على الاتفاق النووي. كان الرئيس باراك أوباما يريد الاتفاق بأي ثمن، بحيث تخلى عن شمول الاتفاق؛ ضبط البرنامج الصاروخي والسلوك الإيراني المزعزع للاستقرار في الشرق الأوسط، ومنع إسرائيل من القيام بأي حركة. تراجع عن توجيه ضربة لدمشق بعدما اجتازت “الخط الأحمر” الذي رسمه واستخدمت الأسلحة الكيماوية. لم يأخذ بمخاوف حلفاء واشنطن العرب الذين تهددهم طهران بما هو أخطر من السلاح النووي. ولا قدم الاتفاق إلى الكونغرس خوفاً من التصويت ضده. وهذا ما يفعله اليوم الرئيس جو بايدن، بحجة منع إيران من الحصول على المواد الانشطارية الكافية لصنع قنبلة خلال أسابيع. فقد وافق على مفاوضات غير مباشرة. لم يأخذ باهتمامات أصدقاء أميركا وحلفائها. ولولا موجة الاعتراض داخل أميركا، لا سيما في الكونغرس، على الاتفاق لما تردد في تلبية مطلب الملالي بإخراج الحرس الثوري من لائحة المنظمات الإرهابية. كل شيء لخدمة هدف لن يمنع الملالي في النهاية من استمرار العمل سراً للحصول على القنبلة النووية. لا التفات لحل الدولتين إلا بالخطاب، لا ضبط للنفوذ الإيراني، ولا سماح بما يزعج طهران، إلى حد أن بايدن بدأ ولايته برفع الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن من لائحة المنظمات الإرهابية.
وهكذا تفعل اليوم أميركا “الأوكرانية”. لا شيء يتقدم على دعم كييف في مقاومة الحرب الروسية. لا أزمة ولا مشكلة في أي مكان لها موقع في سياسات واشنطن إلا من باب الخطاب المكرر. لا خطوة لعقاب أطراف في أماكن عدة ترفض دعوات واشنطن إلى تهدئة أي توتر للتركيز على حرب أوكرانيا. ولا مواجهة مباشرة مع روسيا. كل الدعم العسكري والمالي والاقتصادي لأوكرانيا، وكل جهود الحلف الأطلسي لخدمة مواجهة كييف لحرب موسكو.
أما ما يدور في الشرقين الأوسط والأقصى وأفريقيا، فإن الاهتمام به مؤجل إلى ما بعد حرب أوكرانيا. وأما أصدقاء أميركا العرب والحلفاء في أوروبا، فإن ترددهم في فرض العقوبات على روسيا والامتناع عن استيراد النفط والغاز منها لئلا يؤذي ذلك أوضاعهم الاقتصادية، وحساباتهم الاستراتيجية هو محل انتقاد أميركي، بل إن أميركا تجاوزت موقفها من النظام في فنزويلا وفتحت قناة حوار مع الرئيس مادورو ليسهم في إمداد أوروبا بالنفط المحاصر أميركياً. كذلك سعت لتسريع رفع العقوبات عن إيران من أجل أن يسهم نفطها في التعويض عن منع الاستيراد من روسيا. ولم تسلم من الانتقاد الأميركي الدول العربية التي رفضت رفع معدل الإنتاج النفطي.
كان الرئيس الانقلابي الباكستاني ضياء الحق يقول، “حليف أميركا ينام وإلى جانبه نهر وجنائن، ثم يستفيق، فإذا هو في صحراء، لا هذا ولا تلك”. وفتش عن التركيز على موضوع واحد.