بقلم: د. محمد عاكف جمال – صحيفة “البيان”
الشرق اليوم – «البيئة» مصطلح «تقني» يُوظف من قبل المختصين تجنباً للخوض في مجاهل المصطلح الأوسع والأرحب، وربما الأخطر «الطبيعة» الذي لا يخفي ما يحمله من دلالات «فكرية وفلسفية» بأبعاد لا تتسع الماديات المتاحة لهؤلاء المختصين مواجهتها والخوض بتفاصيلها بحرية.
البحث في قضية ما يعني فتح ملف خاص بها، ملف قابل للإغلاق طالت فترة التعامل بما يحتويه أم قصرت، ليوضع بعد ذلك في الرفوف العالية ويصبح بعضاً من الأرشيف. ملف البيئة يشذ عن هذه القاعدة، فهو غير قابل للإغلاق كغيره، لأن له بشكل دائم مدخلات ومخرجات، فهو ملف يتوسع باستمرار قدر توسع وتعمق الآفاق العلمية لتعرف الإنسان على الطبيعة وآليات عملها وقدر تنوع التخوم التي تحوم حولها هذه الآفاق، خاصة بعد أن أصبح بامتياز قضية ذات أبعاد سياسية دولية تشغل البال على أعلى المستويات.
الملف البيئي يعكس واقع حال جميع الكائنات الحية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، ويتطرق إلى كل ما تتفاعل معه أو تتصل به بشكل مباشر أو غير مباشر، مياه أو هواء أو يابسة، ويُعنى بجميع المتغيرات التي تجري في هذا «الكل» الفائق التعقيد، وخاصة التوازنات بين عناصرها التي تضمن ديمومة الحياة للكائنات في ربوعها.
هذا الملف ينبغي تداوله بحذر شديد، لأنه أصبح منذ تسعينيات القرن الماضي يفرض نفسه بقوة ملفاً سياسياً على أجندة الأحزاب المتنافسة في الدول الغربية للفوز في الانتخابات، فتوفير مستلزمات بيئية صحية للأجيال القادمة في أطر استراتيجية التنمية المستدامة لا يقل أهمية عن دعم صندوقها مالياً.
تركزت الاهتمامات الدولية في الآونة الأخيرة حول مؤشرات مناخية خطيرة غير محتسب لمواجهتها، لأن كلفة ذلك باهظة جداً، قد تعجز العديد من الدول على فعل ذلك، تتلخص هذه المخاطر حول الغازات التي تنبعث من حرق الوقود الأحفوري التي لا تقتصر تأثيراتها على تغيير خصائص الغلاف الجوي، بل تتجاوز ذلك إلى الإضرار بمصادر المياه الصالحة للاستهلاك البشري، فهي تتسبب في زيادة نسبة المواد التي تسهم في سقوط الأمطار الحمضية التي تسببت بانعدام الحياة في العديد من المسطحات المائية والبحيرات بسبب مركبات الكبريت والنيتروجين التي تنبعث أثناء احتراقه.
التلوثات الناجمة عن الصناعات لإنتاج الاحتياجات الضرورية لإدامة الحياة يمكن السيطرة عليها من خلال التكنولوجيا الحديثة التي تتيح وضع ضوابط تتناسب مع طبيعة التلوثات ومدى خطورتها، وتتيح للإنسان وفق اتفاقية باريس للمناخ لعام 2015 فرص السيطرة عليها، إلا أن للتلوثات التي تصنعها الحروب شأناً آخر، فلها تشابه مع بعض ما ألفناه، والتي لنا خبرة في التعامل معها، ولها في الوقت نفسه تباين عن ذلك فيما لا خبرة لنا في التعامل معها، فالأضرار التي تسببها الحروب والتلوثات التي تنجم عنها لا تقتصر على تدمير المدن وإلحاق الضرر بالإنسان والحيوان والنبات، بل قد تتجاوز تداعياتها أزمان حدوثها وأماكن وقوعها بكثير، فهذه التلوثات قد تمتد ليس إلى ما يجاور أماكن وقوعها، بل ربما إلى ما هو أبعد كثيراً من ذلك، وتصبح خطراً يهدد حياة الملايين من الناس، إذ تستمر الألغام ومخلفات الحروب غير المتفجرة في القتل والتشويه وحرمان السكان من الاستفادة من مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية.
التقدم في التكنولوجيا العسكرية أفرز تأثيرات خطيرة على البيئة، ويتضح ذلك في التدمير الذي تحدثه الحروب للأراضي الزراعية والغابات، مما تعجز الأوبئة التي تعرفنا على قدراتها عن فعله، فعلى سبيل المثال دُمرت 35 في المئة من غابات كمبوديا نتيجة عقدين من الحرب الأهلية، ودمرت القنابل الكيميائية الأمريكية وحدها أكثر من مليوني فدان من الأراضي الزراعية في فيتنام، وتسبب اليورانيوم المنضب الذي استعملته الولايات المتحدة في حربها على العراق في تلويث مساحات شاسعة من مدن وصحارى العراق لأمد ليس من السهل توقع انتهائه في حياة أولادنا أو أحفادنا.
ورغم كل ذلك تخلو الاتفاقيات الخاصة بالبيئة وآخرها اتفاقية باريس لعام 2015 من الإشارة لذلك على الرغم من أن أبرز الدول الموقعة على تلك الاتفاقية هي أكبر المنتجين للسلاح والمنتفعين من تجارته، فهناك زيادة سنوية في حجم تجارة السلاح لا تقل عن 5 في المئة، وفق بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام.