بقلم: د. علي الخشيبان – صحيفة “الرياض”
الشرق اليوم – الحرب الروسية – الأوكرانية نسفت نظرية الاستقرار العالمي، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، هذه المواجهة بين روسيا وأوكرانيا نسفت الاعتقاد بأن الحرب بين الدول العظمى والقوية قد انتهت مع تحولات ما بعد الحرب العالمية، وخاصة أنه أصبح هناك نظريات ترى أن الحروب أصبحت مهمة حصرية لدول العالم الثالث فقط، وأن التاريخ يكتب نهايته ويتجه نحو الاستقرار في العالم الأوروبي والأميركي، الغرب يدرك حجم المخاطر التي يحملها التاريخ الأوروبي ولكن الاعتقاد القائم يقول إن تاريخ أوروبا تم نقله إلى المخازن ونسيته أوروبا ولن يعود.
التاريخ هو جذور الحياة بالنسبة للأمم والشعوب ومهما كان من تحول، فإن التاريخ هو أسهل إيقاظاً من غيره لأنه بكل بساطة “لا يموت”، بالإضافة إلى أنه عندما يبعث فهو يبعث بكل العقول ويسهل حتى الأفراد استرجاعه، لأنه إذا تم إيقاظ التاريخ فهو كالشمس ينتشر بسرعة الضوء، فكرة السلام الدائم في النظريات السياسية تتعرض لاختبار حقيقي اليوم منذ أن أطلقها الفيلسوف الألماني (كانط) في نهاية القرن الثامن عشر، فالحرب العالمية الثانية كسرت هذه النظرية ولكنها صنعت للغرب مسارا جديدا اعتقدت من خلاله الدول الغربية أنها سوف تنجح في بناء السلام الدائم على الأقل في محيطها الجغرافي وهذا ما نجحت به حتى 2022م، عندما غزا الاتحاد السوفيتي أوكرانيا.
بعد الحرب العالمية الثانية ساد العالم نظرية واقعية متفائلة في تحقيق السلام الدولي ولكن ذلك لم يكن دقيقا، فرغم كل الانتصارات في الحروب الدولية إلا أن الدول الغربية ما زالت تنشر جنودها في أرجاء العالم، فكم من القواعد العسكرية المنتشرة على أرض أوروبا وآسيا وحتى إفريقيا البعيدة عن أن تكون من الأطراف الحاسمة في الصراع الدولي، فقد أصبحت تعج بالقواعد العسكرية والمعدات والصواريخ الغربية والشرقية، ولذلك أتت الحرب الروسية – الأوكرانية لتقلب المعادلة الدولية ونظريات السلام التي كما يقال عنها المختصون: إنها “ولدت ميتة” والسبب أن جذور التاريخ يصعب تجفيفها من القلق والمخاوف.
لقد أثبتت السياسات الدولية أنها مسرح مفتوح للصراعات، وأن تهدئة العالم التي حدثت بعد الحرب العالمية الثانية لم تكن سوى نموذج سياسي قوى من المهدئات وليس مضادات التاريخ، لقد أثبت العالم أنه عاجز عن الوقوف في وجه أي تاريخ يمكن إيقاظه من جديد، ففكرة السلام أصبحت الخطاب السياسي السائد في العالم، ولكن هذه الفكرة لن ولم تكن كافية، أمام رغبة الدول في مضاعفة نصيبها من القوة على حساب الدول الأخرى.
ولعل السؤال هنا: من يقف خلف هذه الفكرة ونشر القوة تحت غطاء السلام بلا شك إنه التاريخ الذي يصعب هضمه وابتلاعه عبر نظريات السلام، لقد حاول العالم بكل دوله القوية أن يتعافى من الأزمة التي خلّفتها الحربان العالميتان الأولى والثانية، ولكنه لم يستطع التعافي من الإرث التاريخي الذي احتفظ بكلمته الأخيرة في تقرير الكيفية التي بنى عليها العالم صيغته الجيوسياسية والاستراتيجية بعد الحرب العالمية الثانية.
السلام يستحيل صناعته مع فكرة توزيع القوة بين الدول فلا يوجد دولة في العالم مهما كانت قوية أو ضعيفة إلا وترغب في أن تحتل المرتبة الأولى، ولعل فكرة الظاهرة النووية التي سادت العالم بعد الحرب العالمي الثانية وسباق كثير من الدول للحصول على السلاح النووي إنما يأتي في إطار إعادة تعريف الدول لنفسها ومواقعها في الخارطة العالمية.
لقد أثبتت بنية النظام الدولي وهشاشته التي سادت تحديدا منذ بدايات القرن الحادي والعشرين أنه لا يمكن بناء منظومة تكون قادرة على توزيع الحصص على الدول فيما يخص القوى الدولية، لقد أصبح العالم اليوم يشعر بذلك التنافس الهائل بين دول العالم والرغبة في إعادة هيكلة النظام الدولي بطرق يصعب التنبؤ باتجاهها، لقد كشف الحرب الروسية – الأوكرانية معايير مهمة لدول العالم لا بد من بحثها، فلم تعد الأمم المتحدة قادرة على ترويض الدول القوية وتوجيه مساراها، ولم يتوقف العالم عن بناء جيوشه وشراء الأسلحة والبحث عنها في كل مكان، ومن ثم فإن القلق من عدم وجود مرجعية دولية وتكاثر السلاح سوف يؤدي في النهاية إلى أن الدول لا يمكنها أن تأمن جوانب بعضها البعض.
لقد أثبتت الأزمة الروسية – الأوكرانية أن العالم يعيش مرحلة صعبة وتحديات نافذة إلى عمق الأمن والسلام الدولي، وسيتطلب الأمر ثمنا مهما ولكن أحدا لا يستطيع أن يحدد نوعية هذا الثمن وشكله وصيغته، فهذه الحرب هي ولادة محتملة لنظام عالمي يصعب تحديده، وإلى أين سوف يأخذنا، فبركان التاريخ الأوروبي أصبح يبعث أبخرته، والجميع يتحدث عن ذلك، وكل المتنافسين يعيدون موقفهم إلى قواعد تاريخية تخصهم.