بقلم: سمير التقي – النهار العربي
الشرق اليوم- لا يمكن لأحد التنبؤ بمشاعر فلاديمير بوتين وهو يعبث بالزر الرمادي السوفياتي العتيق Analogue للكارثة النووية. فبحسب بوتين، كانت مجرد مناورات، لتصير “عملية عسكرية خاصة”، لتصير تهديداً بحرب نووية تنذر بشتاء نووي يفني البشرية لعقود.
ترأس بوتين مناورات إطلاق مجموعة من الصواريخ النووية من البر والسفن والغواصات والطائرات. وقال: “من يحاول عرقلتنا وخلق تهديدات لبلدنا ولشعبنا يجب أن يعلم أن رد روسيا سيكون فورياً، وسيؤدي إلى عواقب لم تشهدوها من قبل في تاريخكم”. وبعد ذلك أمر بوتين قوات الردع الروسية بـ”حالة تأهب قتالي قصوى”. ورغم الميل لقياس مستوى المخاطر النووية مع الأزمة الكوبية في الستينات، ثمة فروق جوهرية عن روسيا الزمن الشيوعي ترفع جدياً نسبة الخطر.
أولاً: في ذاك الزمان الشيوعي، كانت ثمة معايير قيمية ومكتب سياسي قوي ومؤسسات، وموازين بينها. وكان ثمة اتفاق راسخ بين المعسكرين أن الحرب يجب ألا تُخاض. بوتين يتصرف وكأنها حربه الشخصية، ولا أحد يُسمعه إلا ما يطيبه. بل أظهر بوتين قبولاً قدرياً بالمخاطر النووية: “بصفتي مواطناً روسياً، ورئيساً للدولة الروسية، أميل إلى أن أسأل نفسي: لماذا نحتاج إلى مثل هذا العالم إذا لم تكن هناك روسيا؟”.
ثانياً: حقيقة أن روسيا أضعف الآن من أي وقت مضى، باستثناء قوتها النووية. وزاد من ضعفها الفشل العسكري، الأمر يولّد ديناميكية فريدة مقلقة، إذ يمكن للضعف أن يفتح طريق المخاطرة باستخدام الجوكر النووي المتبقي.
ثالثاً: الامتداد الزمني، إذ استغرقت الأزمة الكوبية 13 يوماً، ليستمر الغزو الراهن من دون نهاية واضحة لتزيد معه المخاطر.
رابعاً: سبق أن غامر بوتين بالغزو، مخمناً أن الغرب سيجبن عن الرد، وأثبت الواقع خطأه، فهل سيجرب مرة أخرى؟
خامساً: مع محدودية الاتصال بين الكرملين والعواصم الغربية، يتصاعد خطر إساءة قراءة النيات. فإن اكتشف العسكريون الأميركيون ما يشير إلى مناورات نووية روسية، فسيكون بايدن مجبراً على وضع القوات النووية الأميركية في حالة تأهب، ليتصاعد خطر الخطأ في التقدير بسبب حالة تأهب.
وتتضمن العقيدة العسكرية الروسية الحديثة قواعد لاستخدام السلاح النووي، لمنع ضربة صاروخية وشيكة، أو رداً على ضربة سلاح دمار شامل؛ أو الرد على هجوم لتحييد الترسانة النووية الروسية؛ أو الرد على هجوم يهدد وجود الدولة الروسية.
وتكمن المعضلة في النقطة الأخيرة، لأنها الأكثر غموضاً وإثارة للقلق. ماذا يعني “وجود الدولة”؟ هل السلطة الراهنة أو هل بوتين هو الدولة؟ هذا فيما تدّعي روسيا أن “أوكرانيا تشكل تهديداً لروسيا”. وهل يهدد تجميد ومصادرة احتياطيات البنك المركزي الروسي وجود الدولة؟ وماذا عن شحن الأسلحة الفتاكة؟ وماذا عن الهجمات الأوكرانية على الأراضي الروسية؟
يقول بعض الخبراء إن هذا قد يكون جزءاً من استراتيجية بوتين لإرباك خصومه ومنعهم من التنبؤ. لكن هذا المنطق هو بالضبط ما يجعل الخطر النووي غاية في الجدية، نظراً إلى أن القرار في موسكو فردي وحتى متهور لا يمكن ردعه بإظهار التروي أو الصبر الاستراتيجي. ولقد سبق أن استخدم بوتين الأسلحة الكيميائية حين أُحرج. ورغم التجارب الاستفزازية الروسية لصواريخ جديدة، فقد ألغت واشنطن الشهر الماضي، اختبارها الخاص لصاروخ عابر للقارات بهدف “إدارة التصعيد”، بحسب وزير دفاعها لويد أوستن.
ومع ذلك، نقرأ رسائل جديدة متناقضة من الطرفين. فرسالة بوتين الضمنية الجديدة، لا لبس فيها، وتتلخص في الانكفاء. وبعد فشله في حملته المتعددة المحاور نحو كييف، يتحدث الآن عن السيطرة على الجزء الشرقي من البلاد. وأمر وزير دفاعه شويغو بعدم اقتحام المقاتلين الأوكرانيين المتحصنين في مجمع فولاذ في ماريوبول. وصرح المفاوض الروسي بأنه رغم أن موسكو ترفض عضوية أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي، إلا أنها “ليس لديها اعتراض على تطلعات أوكرانيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي”.
رفض بايدن، من جهته، كل ما من شأنه التلميح إلى تورط عسكري أميركي مباشر. قال إن التحالف “يرسل رسالة لا لبس فيها إلى بوتين: لن ينجح أبداً في السيطرة على أوكرانيا بأكملها واحتلالها”. ورغم أن تصريح بايدن حازم في لهجته، إلا أنه يترك الباب مفتوحاً أمام احتمال أن يحتل بوتين المنطقة الجنوبية الشرقية، لينسدل الستار الحديدي الجديد في شرق أوكرانيا، بين أوروبا وروسيا بكل أبعاده الاقتصادية والدبلوماسية، والسياسية، والإعلامية، والرقمية.
وفيما قد توافق أوكرانيا على وضع عسكري محايد لا يهدد روسيا مقابل وقف القتال، فإن مثل هذا الاتفاق يمنح بوتين نصراً جزئياً. وسيدفع ذلك أوكرانيا التي ستعتبر الغزو غير قانوني نحو جيرانها الغربيين دائماً، لضمان أمنها المهدد من روسيا.
في كثير من الأحيان، لا تنتهي الحروب بمعاهدات سلام، بل بوقف لإطلاق النار، يترك القوات على “خطوط السيطرة”. ويعتقد بعض الباحثين أن روسيا ربما تتحرك نحو مثل هذه النتيجة، ويمكن أن تمد نفوذها من أوديسا إلى دونباس.
هذا، فيما يجري الحديث عن أن أوكرانيا غربية ستكون نسخة من ألمانيا الغربية أو كوريا الجنوبية. ومن شأن ذلك هزيمة عميقة لحلم بوتين بالهيمنة على كييف.
ولكن ماذا لو فشل بوتين في دونباس؟ قد يصبح الوضع أكثر صعوبة في التنبؤ. وفيما لم يسمح سوى لعدد قليل من القادة السوفيات بالتحدث عن العقيدة الاستراتيجية النووية، والتزموا بذلك بطريقة مكتوبة وبعناية فائقة، فإن بوتين يسمح للناطق باسم الكرملين والعديد من الإعلاميين والسياسيين بالحديث والتهديد النووي، الأمر الذي يعقّد كثيراً لوحة المخاطر.
لذلك، نجد وزير الدفاع الأمريكي أوستن يصرح: “نريد أن نرى روسيا تضعف إلى درجة أنها لا تستطيع القيام بمعظم الأمور التي فعلتها في غزو أوكرانيا”. بل قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي: “نعتزم جعل هذا الغزو فشلاً استراتيجياً لروسيا. إن أحد أهدافنا هو الحد من قدرة روسيا على القيام بشيء من هذا القبيل مرة أخرى”. فكيف سيتم ذلك؟
لقد حذر مسؤولو حلف شمال الأطلسي بوتين من التهديد بالقول إن روسيا “لا يمكنها أبداً الفوز في حرب نووية”، وناشدوا الكرملين وقف “خطابه النووي الخطير وغير المسؤول”. فلقد نجح بوتين في دحض نظرية أن السلاح النووي ضمانة ضد وقوع الحروب، فها هو يجعل السلاح النووي ضمانة للحرب والعدوان من دون حساب. إنه قانون غاب جديد سنشهد تداعياته حتماً في الشرق الأوسط!