بقلم: الحبيب الأسود – العرب اللندنية
الشرق اليوم – لا تحتاج ليبيا إلى المزيد من المشاريع الوهمية التي اعتادت الأمم المتحدة على الترويج لها خلال السنوات الماضية، وتداول على تبنيها عدد من العواصم الإقليمية والغربية إلى أن نزلت عليها واشنطن بكلاكلها فباتت الحاكمة بأمرها في الملفين السياسي والاقتصادي، رغم أن كل المؤشرات تدل على أنها إما عاجزة عن الحل موعودة بدوام الفشل، وإما تتعمد العمل على استبعاد الحل إلى حين التفرغ تماما لإعادة تشكيل المشهد الليبي وفق مصالحها والنموذج الذي تهدف إلى تكريسه.
وأبرز الأوهام التي يتم الترويج لها منذ فترة ليست بقصيرة، هو وهم الانتخابات الذي عاد هذه الأيام بقوة للتداول مصحوبا بالقهقهات الساخرة المكبوتة للواقفين وراءه، وخاصة الدبلوماسية الأميركية المخضرمة والمستشارة السياسية للأمين العام للأمم المتحدة المكلفة بالشأن الليبي ستيفاني ويليامز التي لا تبدو عاجزة عن فهم تفاصيل الوضع في البلد العربي الأفريقي المتأزم على الضفة الجنوبية للمتوسط، وإنما تسعى لتنفيذ خطتها المتمثلة أساسا في منع توصل الليبيين إلى حلّ قد يفلت خيوط اللعبة من بين أصابع واشنطن.
لم يعد هناك من يتحدث اليوم عن مخرجات مؤتمري برلين الأول والثاني، ولا عن إجلاء القوات الأجنبية والمرتزقة، ولا عن حل الميليشيات وجمع السلاح الخارج عن القانون. وكان واضحا أن جميع ما قيل عن استعداد الأمم المتحدة لتسليط عقوبات رادعة على معرقلي الحل السياسي والاستحقاق الانتخابي كان مجرد جعجعة من باب اللغو الذي يغني ولا يسمن من جوع، وأما ملتقى الحوار السياسي الذي كانت السيدة ويليامز مهندسته، فقد كان عنوانا لطبيعة الفساد المسيطر على ليبيا ما بعد 2011، ولعل المزاد العلني الذي فتح لبيع الأصوات وشرائها من دورة تونس إلى دورة جنيف يمكن أن يفسّر ما وصل إليه الوضع حاليا في طرابلس من استبداد بالسلطة وتمسك بالكرسي من قبل رئيس الحكومة المنتهية ولايتها والفاقدة للشرعية عبدالحميد الدبيبة وفريقه الذي وصل إلى حد الآن على الأقل إلى تحويل الانقسام السياسي والحكومي إلى واقع ملموس بعد أن آلت مقاليد السلطة في برقة وفزان إلى حكومة الاستقرار المنبثقة عن مجلس النواب برئاسة فتحي باشاغا.
يتعمّد الدبيبة الحديث عن إعادة الأمانة إلى الشعب الليبي، وهو أكثر الناس إدراكا بأنه يربط نفسه بحبال من الوهم إلى وعد لن يتحقق، فالانتخابات لم تنتظم في يونيو ولا في أكتوبر، والظروف لا تسمح لا بتنظيمها ولا بتوفير شروط الشفافية والنزاهة لها ولا تضمن اعتراف الفرقاء بنتائجها.
جاء الدبيبة في أواخر 2020 لينافس على رئاسة الحكومة ممثلا لأسرته ولفئة الأثرياء الجدد من نخبة الاعتمادات والصفقات والمستفيدين من قروض ما قبل 2011 التي تم حرق ملفاتها ومرجعياتها القانونية في سياقات فوضى الحرب الأهلية، وتبين أن الرجل كان مدعوما من قبل الساعين لوضع أياديهم هم على الثروة في إطار مساومات كان مستعدا لها، فهم يريدون مصالحهم، وهو كذلك يريد مصالحه ومصالح من يمثلهم في مركز القرار، وعندما تم الحديث عن تنظيم انتخابات في الرابع والعشرين من ديسمبر الماضي، تخلى عن تعهداته الأخلاقية بعدم الترشح، ودخل في كرنفال شعبوي عارم للترويج لنفسه كعنوان للمرحلة القادمة، وأصرّ على موقفه إلى أن ألغيت تلك الانتخابات. وبدل الاعتراف بالفشل والانصياع لمخرجات ملتقى الحوار التي تستوجب تخليه عن السلطة في الرابع والعشرين ديسمبر، ولقرار البرلمان بحجب الثقة عنه.
أطلق الدبيبة على حكومته شعار الوحدة الوطنية، فكانت حكومة الانقسام والتجزئة، ووعد بأن يكون رئيس حكومة لكل الليبيين، فإذا به يتحول إلى زعيم جهوي وإقليمي وفئوي ونموذجا للنزعة الانعزالية غير المسبوقة. وبعد أن تحدث عن توحيد مؤسسات الدولة اتجه إلى المزيد من تشتيت هياكلها وتمزيق روابطها. وأما عن إجلاء القوات الأجنبية والمرتزقة فقد كان جزءا من الوهم الكبير، فالرجل لا يريد ذلك، وهو اليوم يمثل التبعية الكاملة للنظام التركي، ويشكل صورة شاملة للانخراط التام في التحالفات القائمة بين أمراء الحرب وتيار الإسلام السياسي وأباطرة الفساد وفلول الإرهاب وشبكات العبث بالمال العام.
اشتغلت ستيفاني ويليامز لمدة عامين على مشروع الانتخابات الذي تبين أنه وهم تمسك به المجتمع الدولي حتى قبيل أسبوع من الموعد المحدد للرئاسيات في ديسمبر الماضي، واستعملت الدبلوماسية الأميركية المخضرمة ذلك الوهم لإضاعة المزيد من الوقت، وهو ما حدث فعلا. وهي التي بنت فكرة ملتقى الحوار السياسي على مشروع الاستحقاق، ووصلت إلى مرتبة الحاكمة بأمرها في شؤون البلاد ورقاب العباد من منطلق أنها من ستضمن لليبيين انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، لكن لا شيء من ذلك تحقق، ببساطة لأن ويليامز كانت تنفذ خطتها الوهمية وهي تدرك أن هدفها ليس تحقيق تطلعات الشعب الليبي إلى الحرية والديمقراطية والسيادة الوطنية، ولكن ضمان مصالح الشركات متعددة الجنسيات في الاستثمارات المتعلقة أساسا بالنفط والغاز، وعدم توفير الظروف الملائمة التي تسمح برفع القيود عن الأموال الليبية المجمدة المعرضة للنهب، وتنصيب سلطة موالية لطرف دولي دون غيره ومن الأفضل أن تمثل تلك السلطة مزيجا بين فئتين تقاومان للفوز بمراكز القرار هما رجال الأعمال والإسلاميون الذين يحيطون اليوم بالمهندس الدبيبة.
هناك إجماع اليوم على أن الدبيبة مستعد لخوض حرب طاحنة تضمن له البقاء في السلطة، وهو يضحك على ذقون البسطاء بزعم أن هدفه إعادة الأمانة للشعب، وتوافقه ويليامز على ذلك ومعها السفير الأميركي، رغم أن المواطن الليبي البسيط يدرك أن الانتخابات بعيدة المنال، لعدة أسباب، منها أن البلاد تواجه حالة انقسام اجتماعي وسياسي لا تساعد على تأمين الاستحقاق أو ضمان الاعتراف بنتائجه، وأن ليبيا اليوم هي ثلاثة أقاليم ولها حكومتان وجيشان، والفاعلون السياسيون الحقيقيون فيها عاجزون عن الاجتماع في ما بينهم؛ لا يزال هناك من ناشطي الشرق من لا يستطيعون التنقل إلى عاصمة بلادهم، وهناك من سياسيي وناشطي المنطقة الغربية من لا يتجرأ على الانتقال إلى بنغازي مثلا. كما أن أية قاعدة دستورية لتنظيم الانتخابات لن يتم التوصل إليها في غياب التوافق السياسي، وأي توافق سياسي لن يتحقق في غياب المصالحة الوطنية وتوحيد المؤسسة العسكرية، والدستور لن يتم إقراره ولا الاستفتاء عليه في ظل تعمد بعض القوى تقديم نزعة المغالبة على الوفاق الوطني، كما أن الثقة تكاد تكون منعدمة، بل هي منعدمة فعلا، وخطاب الكراهية لا يزال رائجا بقوة ويحظى بدعم حكومي في طرابلس.
يراهن الدبيبة على استمرار قدرة فريقه المتخصص في الترويج لوهم الانتخابات، وهو يعد المقربين منه بالإبقاء على الوضع الحالي لمدة أعوام أخرى، فقد وصل إلى سدة الحكم ثم سحب السلّم من ورائه ليبقى هناك، وليس مهما بالنسبة إليه أن تنقسم البلاد أو أن تندلع الحرب، فلديه القوى الداخلية والخارجية التي يستند عليها في توفير شروط التمسك بالحكم في سياق شرعية وهمية بشعارات وهمية ووعود وهمية لن تؤدي إلا إلى المزيد من سياسة الوهم التي تكاد تجعل من الشخصيات الحقيقية مجرد شخوص وهمية إلى أن ينكشف الزيف في يوم من الأيام.