الرئيسية / مقالات رأي / لماذا لن تصبح الحرب في أوكرانيا نووية؟

لماذا لن تصبح الحرب في أوكرانيا نووية؟

بقلم: جدعون روز – إندبندنت عربية


الشرق اليوم – شددت التحليلات المبكرة للحرب في أوكرانيا على العديد من العوامل الفريدة الخاصة بكل من الحالات المحددة، مثل التاريخ المعقد للمنطقة، وحال الرئيس بوتين النفسية المعقدة، والقيادة الكارزمية للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وبدا الصراع جديداً بشكل صادم ولا يمكن التكهن به بشكل مخيف، إذ يمثل نهاية حقبة وبداية أخرى، وله معالم غير معروفة حتى الآن.
ولكن فيما يتواصل القتال تبدو الحرب مألوفة أكثر، وتشبه بشكل متزايد العديد من الصراعات الأخرى التي شهدتها العقود السبعة الماضية، ويوحي هذا بأن السمات البنيوية العامة للوضع تفرض نفسها على المتحاربين وتوجه خياراتهم إلى مسارات بالية [لطالما قصدها آخرون] بشكل يثير الدهشة.
باختصار، الحرب في أوكرانيا تتبع نموذج الحرب المحدودة في العصر النووي، مرددة صدى نص تمت كتابته في كوريا وجرى نسخه مرات عدة منذ ذلك الحين، وهذه ليست حقبة جديدة بل مرحلة جديدة في حقبة قديمة، حتى إن المرحلة الجديدة تتقيد بالقواعد القديمة نفسها، مما يؤدي إلى تداعيات مهمة بالنسبة إلى ما تبقى من الحرب وما بعدها.
تبدو وكأنها المرة الأولى
واجه صناع السياسة الأميركيون أواخر أربعينيات القرن الـ 20 مشكلة غير مسبوقة، تتمثل في التساؤل عما تفعله بالأسلحة التي يمكن أن تدمر العالم؟ لقد قامت الدول عبر التاريخ بتسوية أكبر خلافاتها الكبرى من طريق الحرب، لكن مع مرور الزمن صارت الحروب مدمرة أكثر فأكثر، ووصلت في ذروتها إلى الحرب الشاملة التي انتهت للتو، والتي بلغت ذروتها هي الأخرى بإلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي، مما أدى إلى تدمير مدن بأكملها بفعل انفجار واحد. لم يعرف أحد ما الذي كان سيحصل تالياً، فقد بدا كسر حلقة الحرب مستحيلاً، وبدا الاستمرار فيها غير وارد، وشهدت التوترات مزيداً من التصعيد حين صار الاتحاد السوفياتي يملك القنبلة في العام 1949، وغزت بعد ذلك القوات الكورية الشمالية في يونيو (حزيران) 1950 كوريا الجنوبية، وسرعان ما هبت واشنطن وحلفاؤها للوقوف إلى جانب سيول في مواجهة موسكو التي كانت تقدم هي وبكين الدعم لبيونغ يانغ. كيف ستكون نهاية الحرب في العصر النووي؟ ستتم الآن الإجابة عن هذا السؤال.
احتدم القتال في أطراف شبه الجزيرة الكورية لثلاث سنوات، واكتشف الطرفان تدريجياً بطرق متأنية وغير مباشرة مواقف وآراء بعضهما بعضاً، واتفقا ضمنياً على قواعد الطريق الذي يفضي إلى عصر جديد. لم ترغب أي من القوتين النوويتين في نشوب حرب شاملة أخرى، الأمر الذي حملهما على فرض قيود صارمة على وسائل الصراع وغاياته ومداه. لقد اختارت كل منهما عدم استخدام الأسلحة النووية، واختارت كل منهما عدم مهاجمة أراضي الأخرى أو نظامها، وبذلك تركت القوتان الصراع للكوريين، وفيما عدا ذلك سُمح للحرب أن تمضي قدماً بشكل تقليدي وبالوحشية التي أرادها المتحاربون.
لم تُقرأ هذه القواعد من كتاب كما لم يجر التوصل إليها عبر المفاوضات، ولم تتبع انطلاقاً من الإيمان أو الأمل أو عمل الخير، بل استحدثت من التطبيق العملي. كان على صناع السياسة في موسكو وواشنطن أن يتخذوا قرارات حاسمة في الوقت الفعلي [للتطورات ذات العلاقة] حول كيفية تحقيق أهدافهم خلال الحرب، وبفعل المنطق المتأصل في الحال نفسها صارت بعض مسارات العمل أكثر جاذبية من غيرها، واتضح أن الأسلحة النووية، على الرغم من كل القوة التي تتمتع بها، بل بسبب كل قوتها، عاجزة بشكل مدهش، وسيكون لاستعمال هذه الأسلحة كلف كثيرة وفوائد قليلة، ومن شأنها أن تخلق مشكلات أكثر مما تحل، ولهذا فإن أياً من القوتين العظميين لم تستعملها [الأسلحة النووية].
وبعد عقد من الزمن عززت أزمة الصواريخ الكوبية التحريم المتزايد لاستخدام الأسلحة النووية، وتركت الطرفين أكثر نفوراً من ركوب الأخطار، ثم اتبعت فيتنام النموذج نفسه الذي اتبعته كوريا ولم تستعمل أي من القوى النووية، والتي انضمت الصين إلى صفوفها، أسلحة نووية.
لم تهاجم أي منها أراضي أو نظام قوة نووية أخرى، وفيما عدا ذلك كان كل شيء مقبولاً، وكانت القواعد نفسها سائدة في حرب الخليج، الحرب العراقية، والحربين الأميركية والسوفياتية في أفغانستان، كما كانت تلك القواعد سارية في صراعات شاركت فيها قوى نووية في أماكن أخرى (بصرف النظر عن بعض المناوشات الثانوية)، وهي [القواعد] الصامدة حالياً في أوكرانيا.


كيف سينتهي هذا؟
كانت الخطة (أ) لروسيا تتمثل بالسيطرة على أوكرانيا بسرعة وتنصيب حكومة صديقة ووضع العالم أمام الأمر الواقع، وحين فشلت الخطة بسبب المقاومة العسكرية العنيدة تحولت موسكو إلى الخطة (ب) وهي قصف المدن من بعيد ومحاولة سحق الروح المعنوية الأوكرانية، وعندما لم تجد ذلك أيضاً لجأ الكرملين إلى الخطة (ج)، فتخلى عن سعيه إلى الاستيلاء على البلاد بأكملها وعاود التركيز على محاولة وضع يده على رقعة من الأرض في الشرق والجنوب والاحتفاظ بها، وستكون المعارك المقبلة في دونباس حاسمة لجهة صياغة ملامح المحصلة النهائية، ولكن يمكن سلفاً قول الكثير عن الكيفية التي ستنتهي بها هذه الحرب.
سينتهي الصراع إما بتسوية تفاوضية تشمل تثبيت وضع الأراضي القائم سابقاً، أو يصبح نزاعاً مجمداً مع تمركز الجيشين على طول خط تماس في الشرق، أي أن نهاية الحرب ستشبه نهاية كل من حربي كوريا والخليج، أو الوضع في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وترانسنيستريا، وفي أي من الحالين، وكما في كوريا، دفعت صدمة العدوان الأولي إلى [إنشاء] تحالف متوازن أوسع نطاقاً سيبقى حتى حين يتوقف القتال. اختارت روسيا حرباً ساخنة وستحصل على حرب باردة في الصفقة.
وأياً كانت التفسيرات التي تقترح في شأن العقيدة العسكرية الروسية، فإن موسكو لن تلجأ لاستخدام أسلحة نووية خلال الصراع، فمنذ العام 1945 رفض كل زعيم قوة نووية، بدءاً من سياسيين متواضعين مثل الرئيسين الأميركيين هاري ترومان وليندون جونسون إلى سفاحين يعانون خللاً اجتماعياً حاداً مثل جوزيف ستالين وماوتسي تونغ، استعمال الأسلحة النووية في المعركة لأسباب وجيهة، ولن يكون بوتين استثناء، فهو لا يتصرف انطلاقاً من قلب ناعم بل من عقل قاس، ويعلم أن استعمالها سيجعله يواجه انتقاماً غير عادي، إضافة إلى الخزي العالمي، مع عدم وجود أي فوائد استراتيجية من الممكن مقارنتها ولو بالحد الأدنى [بهذه الأضرار] لتبرير استعمالها، ناهيك عن حقيقة أن التداعيات الإشعاعية الناتجة من استخدام القنبلة قد ترتد بسهولة إلى روسيا نفسها.
ولأسباب متصلة فإن حلف شمال الأطلسي (ناتو) لن يهاجم روسيا أو يحاول قطع رأس النظام الروسي، وذلك من أجل تفادي دفع بوتين إلى اليأس [وبالتالي دفعه للتهور]، ولن يجري إشراك قوات الـ “ناتو” في الحرب ولا فرض منطقة حظر طيران ولا ملاحقة ساخنة للقوات الروسية إذا انسحبت عائدة لأراضيها، فكل هذه الإجراءات من شأنها أن تنطوي على مجازفات كبيرة بالتصعيد الذي يريد الـ “ناتو” أن يتجنبه بقدر ما تريد موسكو ذلك، وبالعكس سيشعر الـ “ناتو” أنه مضطر إلى منع موسكو من تحقيق نصر كبير، ليس فقط من أجل أوكرانيا وإنما لتفادي تحديد سابقة خطرة مفادها أن الأسلحة النووية مفيدة من أجل حماية المكاسب غير المشروعة التي تم الحصول عليها من خلال عدوان تقليدي.
ولكن ضمن هذه الحدود سيجري خوض الحرب إلى أقصى درجة ممكنة حتى يتحول المد بشكل حاسم في اتجاه واحد [لمصلحة أحد الطرفين] أو يتجمد أمام طريق مسدود، وسيكافح المتحاربون حتى يستنفدوا قواهم أو إلى أن تعود خطوط المعركة لما يشبه نقطة البداية.
يجب أن يكون هدف إدارة بايدن تسريع هذا كله من خلال الاستمرار في إمداد أوكرانيا بأي مساعدة عسكرية تقليدية ممكنة لا ترقى إلى ما يتخطى الحواجز التي تمنع اندلاع الحرائق النووية، ومع تحاشى استخدام الكلام المسيء عن القيادة الروسية والاستعداد للتفاوض بشكل جدي عندما تكون الظروف مواتية.


قنافذ نووية وثعالب تقليدية
طور المفكرون الاستراتيجيون خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي أنظمة مضاربة معقدة من أجل التكهن بكيفية تصرف القوى النووية في ظل العديد من الظروف المختلفة، واكتسبت القوى العظمى ترسانات نووية كبيرة مزخرفة بإفراط وإتقان من أجل التدليل على العزيمة ورفع مستوى التصعيد أو خفضه على سلالم واسعة النطاق قبل صراع ما وبعده، واعتبرتا العيوب النسبية من أي نوع من الأنواع خطرة، وبذلتا كثيراً من الجهود والنفقات على برامج تحديث مستمرة تم تصميمها لإبقاء كل شيء مواكب للزمن وآمن ومخيف بشكل مقنع، علماً أن هذه الجهود تتواصل حتى اليوم.
بيد أن التجربة المعاشة للعصر النووي توحي بأن القادة السياسيين الفعليين يقاربون الأشياء في الحروب الفعلية بشكل أكثر بساطة، ويرون أن الأسلحة النووية عبارة عن قنافذ عسكرية، أي جيدة فقط من أجل شيء واحد كبير وهو الردع ضد تهديدات وجودية حقيقية، وهذا يوحي بأن ذلك الردع أسهل مما يتوقع كثيرون. ومنذ العام 1945 لم يعتبر القادة في زمن الحرب أن الأسلحة النووية قابلة للاستعمال، ولم ينشروها بالتبادل مع الأسلحة التقليدية، وحافظوا على حواجز واضحة لمنع التصعيد. علاوة على ذلك، فإن هذه المواقف قد بقيت سارية بصرف النظر عن أعداد القوى النووية وتعقيدها وبنيتها لدى كل جانب. إن توازن الرعب أثبت أنه أقل حساسية بكثير مما تم افتراضه أصلاً.
إن الشيء الذي يبدو أن الأسلحة النووية تنفع فيه هو ردع هجمات كبيرة على أولئك الذين يملكونها، وفي هذا الصدد فإن الغزو الروسي لأوكرانيا، مثله مثل حملة الـ “ناتو” عام 2011 في ليبيا، لن يؤدي إلا إلى تأكيد قيمة هذه الأسلحة، ليس لأن الروس سيستخدمونها، بل لأن أوكرانيا لم تكن تملكها، وستوفر الحرب مثالاً آخر على الأخطار التي تنتظر الدول التي تملك أسلحة من هذا النوع ولكنها تختار أن تتخلى عنها. وعليه، فمن المحتمل جداً أن يتدنى قبول كل من إيران وكوريا الشمالية التخلي عن برنامجهما النووي، متعللتان بأن خطوة كهذه قد تمهد الطريق إلى شن هجمات عليهما أيضاً، ولذلك يجب أن تخفف واشنطن من طموحاتها في المفاوضات التي ستجرى في المستقبل للحد من التسلح، وتركز حالياً على محاولة تجميد هذين البرنامجين حيث وصلا، وهذا هدف يمكن أن يكون قابلاً للتحقيق خلافاً لهدف التراجع عن البرنامج ككل.
في غضون ذلك، فإن القوات التقليدية هي بوضوح ثعالب عسكرية قابلة للاستعمال بطرق شتى ولتحقيق أغراض عدة، وإن براعة أوكرانيا في القتال التقليدي إلى جانب الدعم الاقتصادي والعسكري الذي تلقته، هي التي أحبطت الغزو الروسي حتى الآن، كما أن هذه العناصر نفسها هي التي ستقرر حجم الأراضي التي تستطيع كييف أن تحتفظ بها في الشرق والجنوب في نهاية المطاف.
وباعتبار أن الصراعات المستقبلية ستتبع على الأرجح نماذج واسعة قابلة للمقارنة، فإن السياسة الدفاعية للولايات المتحدة يجب أن تركز بشكل مكثف على كيفية القتال ومساعدة الآخرين لكي يقاتلوا في حروب تقليدية محضة، وخصوصاً تلك الدفاعية المديدة.
يبرز هنا درس معين، وهو أن أمن تايوان لن يعتمد على أي شيء في المجال النووي بقدر ما سيستند إلى قدرة الجزيرة على منع غزو برمائي من البر الصيني الرئيس وتحمل حصار طويل.


مشكلة التغيير السلمي
إن الحروب التقليدية المحدودة من نوع الحرب التي تشهدها أوكرانيا لا تزال ممكنة خلال الحقبة النووية، إلا أن حروب القوى العظمى العامة مستبعدة بشكل كبير، وهذا تطور عظيم في تاريخ البشرية، لأن حروباً من هذا النوع قد تسببت بقدر استثنائي من الموت والخراب والاضطراب، غير أن ذلك إشكالي أيضاً، لأن تلك الحروب نفسها قد أدت وظيفة عملية، فهي كانت الآلية التي حقق من خلالها النظام الدولي توازنه من جديد وأعاد تخصيص المكانة والامتياز العالميين لجعلهما منسجمين مع التوزيع الأساس للقوة المادية.
وكما لفت العالم السياسي روبرت غليبن فإن “الخاتمة لإحدى حروب الهيمنة هي البداية لحلقة أخرى من النمو، والتوسع ومن ثم التدهور في نهاية الأمر. ويواصل قانون النمو غير المتكافئ إعادة توزيع القوة، وبالتالي يقوض الوضع الراهن الذي تأسس بواسطة آخر صراع هيمنة. يحل عدم التوازن محل التوازن ويمضي العالم نحو جولة جديدة من صراع الهيمنة، ولقد كان الأمر وسيبقى على الدوام هكذا إلى أن يقوم البشر بالقضاء على أنفسهم أو بتعلم كيفية تطوير آلية فعالة من أجل التغيير السلمي”.
وحتى الآن أدى خوف القوى العظمى من أن تدمر نفسها إلى تجنب حرب عالمية ثالثة والتمتع بسلام طويل الأمد، إلا أن التاريخ لا يتوقف في عام 1945 أو 1989، ففي العقود الأخيرة تراجعت الولايات المتحدة بينما نهضت الصين وآخرون، والترتيبات الرسمية المجمدة من النظام الدولي لا تعكس بشكل متزايد التوزيع العالمي للقوة المادية، وستختلف الحرب الباردة الجديدة بين روسيا والغرب، على سبيل المثال، عن تلك القديمة جزئياً، لأن اللاعبين الدوليين الرئيسين مثل الصين والهند وكثير من دول الشرق الأوسط، يختارون عدم المشاركة.
لم تعد التعددية القطبية نظرية بل حقيقة، وستطالب القوى الصاعدة على نحو متزايد بدور في وضع القواعد العالمية وليس فقط في اتباعها، وفي الأيام الخوالي السيئة كان يمكن لتحولات كهذه في القوة أن تؤدي بشكل أو آخر إلى حرب عامة رهيبة، وبسبب الثورة النووية باتت هذه الحروب غير مطروحة، ولكن بما أن التحولات في القوة لا تزال تحصل، [فمثلاً] تضاعف نصيب الصين من الاقتصاد الدولي خمس مرات على مدى الجيل الماضي، لا بد من العثور على أشكال أخرى للتكيف.
ليس من الواضح بالمرة ما الذي يمكن أن يعنيه هذا من الناحية العملية، ولا يمكن لوضع راهن عديم المعنى بشكل متزايد أن يستمر إلى الأبد، وإذا غاب أي احتمال للتغيير السلمي، فحتى المجازفة [بالوصول إلى] نهاية العالم لن تكون كافية للحفاظ عليه.

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …