بقلم: أسعد عبود – النهار العربي
الشرق اليوم – أثبتت الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها الرئيس إيمانويل ماكرون بولاية ثانية في مواجهة مرشحة التجمع الوطني اليميني المتطرف مارين لوبن، أن فرنسا تتغير، وذلك بمقارنة نسبة 41.5 في المائة التي حصلت عليها لوبن مع تلك التي حصل عليها والدها جان-ماري لوبن في مقابل جاك شيراك عام 2002، والتي بلغت 17 في المائة.
بمجرد المقارنة بين النسبتين، يتبين أن فرنسا تميل مع الوقت إلى تقبل أفكار اليمين المتطرف، بفعل عوامل عدة، منها تلك المتعلقة بالسياسات التي تتبناها الأحزاب الموجودة في مواجهة اليمين المتطرف. وكانت هذه الأحزاب التقليدية من يمين ويسار، قد ضمرت لتلامس حدود التلاشي، منذ فوز الوسطي ماكرون عام 2017، لينقسم بعدها المجتمع السياسي الفرنسي إلى ثلاث قوى: الوسطيون بزعامة ماكرون وأقصى اليمين بزعامة لوبن وأقصى اليسار بزعامة جان لوك ميلانشون.
ويضاف إلى ذلك أن مارين لوبن عرفت في المواجهة الأخيرة كيف تغلف أفكارها حتى لا تبدو استفزازية لكثير من الناس، ولعبت على وتر القوة الشرائية للناس وعلى فشل السياسة الاقتصادية لماكرون، بينما لم تظهر عداء مطلقاً للاتحاد الأوروبي، وإنما قالت إنها تريد أن تجعل سيادة فرنسا فوق سيادة أوروبا، كما أنها لم تذهب بعيداً في الدعوة إلى الانسحاب من حلف شمال الأطلسي، بل قالت إنها تريد الانسحاب فقط من القيادة العسكرية المشتركة للحلف لتحذو بذلك حذو شارل ديغول، وسعت إلى عدم الظهور بمظهر المؤيد للغزو الروسي لأوكرانيا، لكنها أبرزت أهمية عدم ترك أوروبا لروسيا كي لا تقع الأخيرة بالكامل في أحضان الصين، التي هي في رأيها المنافس الحقيقي لأوروبا، وخففت بعض الشيء من نبرتها حيال الأجانب، وسعت إلى التركيز على مسألة المزاحمة على اليد العاملة المحلية، ودغدغت كبار السن بالقول إنها لن تسمح برفع سن التقاعد إلى 65 عاماً كما يخطط ماكرون وبأنها ستبقي سن التقاعد عند الستين حتى يتمكن الموظف من التمتع بمزايا تقاعده في سن مقبولة بعض الشيء.
هذه الوعود هي العامل الأساسي الذي جعل لوبن تجتذب نسبة 41.5 في المائة، بينما حصل ماكرون على 58.5 في المائة أي أقل بنحو 8 نقاط مما حصل عليه عام 2017.
يواجه ماكرون تحديات كبيرة وسط هذا المشهد السياسي الجديد. وقد بدا في خطاب الفوز الذي ألقاه ليل الأحد، مقراً بالوقائع الجديدة، عندما قال إنه يعلم أن كثيرين من الفرنسيين صوتوا له، كي لا تفوز لوبن، وليس بدافع الاقتناع برؤيته. ولذا وعد بأن تكون السنوات الخمس المقبلة غير تلك الخمس التي مضت.
ومعلوم أن ماكرون وصل إلى السلطة واعداً بإحداث ثورة في ثاني أكبر اقتصاد أوروبي. لكن احتجاجات “السترات الصفراء” التي شابت سنته الأولى، أبطأت من اندفاعه للإصلاح، ومن ثم تجمد كل شيء بعد انتشار وباء كورونا. وكان ثمة المزيد من الاستياء في البلاد في نهاية ولايته أكثر مما كان في بدايتها، بحسب ما استنتج تحليل لموقع “بلومبيرغ” الأميركي.
وينقسم الرأي العام حول ماكرون. إذ يوافقه نصف الفرنسيين على طريقة معالجته للاقتصاد خلال الوباء، وكذلك يؤيدون جهوده لإنهاء الحرب الروسية في أوكرانيا. وكانت نسبة التأييد له في آذار (مارس) 51 في المائة.
وقد يكون قادة الاتحاد الأوروبي هم أكثر من تنفس الصعداء بفوز ماكرون، لأن وصول لوبن إلى الرئاسة كان من شأنه أن يعقد إلى حد بعيد الجهود الأوروبية لمواجهة الغزو الروسي لأوكرانيا. وتدليلاً على صحة القلق الأوروبي، فإن قادة ألمانيا وإسبانيا والبرتغال توجهوا في مقال نشروه في صحف أوروبية عشية الانتخابات، بنداء إلى الناخبين الفرنسيين كي يقترعوا لمصلحة ماكرون. وشكل ذلك سابقة من هؤلاء لجهة التدخل في انتخابات تجرى في بلد أوروبي آخر.
ويبقى أن رئاسة ماكرون ستكون ملأى بالتحديات سواء على الصعيد الداخلي أم على الصعيد الخارجي، في وقت تواجه أوروبا أشرس حرب على أراضيها منذ الحرب العالمية الثانية.