بقلم: الحبيب الأسود – العرب اللندنية
الشرق اليوم – الوضع في العاصمة طرابلس يفتح أبواب ليبيا على عدد من الاحتمالات السلبية التي قد تؤدي إلى الإطاحة بجميع المبادرات الأمنية والسياسية السابقة للحل، البعض يقول إن تيارا انعزاليا يدافع عن نظرية اعتماد العنف للسيطرة على الدولة ومقدراتها وجد في رئيس الحكومة المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة ضالته لاستغلال انشغال العالم بالأزمة الأوكرانية والدفع نحو حرب جديدة في البلاد، سيتم الاعتماد فيها بشكل كبير على الدعم التركي بالقوات النظامية والمرتزقة والسلاح.
خلال الأيام القليلة الماضية شهدت طرابلس مستجدات تصب في هذا السياق:
الدبيبة يحل ضيفا على مائدة إفطار نظمتها ميليشيا البشير البقرة المعروفة بموالاتها لمفتي الإرهاب الصادق الغرياني، الذي لا يكف عن التحريض المباشر ليس فقط على القوى الليبية المناهضة للتطرف الديني، ولكن كذلك ضد البعثة الأممية والعواصم الغربية، وهو معروف بإصراره على فرض الدولة الدينية بغطاء ميليشياوي، ولا ينظر إلى الدولة المدنية إلا على أنها نقيض لوجود قوات المشير حفتر ضمن أية معادلة سياسية أو اجتماعية أو حتى عسكرية نظامية.
أنصار الغرياني يتجهون إلى مبنى السفارة المصرية وينظمون وقفة احتجاجية أمامها متهمين القاهرة بالوقوف ضد حكومة الدبيبة، رافعين شعارات معادية للرئيس عبدالفتاح السيسي وللحكومة والجيش المصريين، وتقوم قناة “التناصح” التي يديرها ابن الغرياني من تركيا بتغطية تلك الوقفة، في سياق التجييش للدفاع عن استمرار الحكومة المنتهية ولايتها في السلطة.
علينا أن ننتبه إلى أن تلك الوقفة جاءت بعد أن أكد الدبيبة أنه يعتبر الغرياني أستاذه وشيخه وأهم عالم دين مالكي في المنطقة، وبعد أن فتح أمام دار الإفتاء باب التبجيل والتمويل، وأبدى الاستعداد التام لتنفيذ رغبات الميليشيات الموالية لها. وفي الأول من أبريل الجاري وجه الغرياني انتقاداته المباشرة للدولة المصرية بحضور الدبيبة الذي اكتفى بابتسامته المعهودة دليلا على المساندة الضمنية لذلك.
وكذلك بعد أن زار الدبيبة الجزائر، وحاول أن يلعب هناك على حبل التنافس على النفوذ بينها وبين القاهرة، وتقدم بعبارات الولاء والطاعة أمام الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون على أساس أنه زعيم المنطقة الغربية المحادّة لمن وصفها بالشقيقة الكبرى القادرة على رد أي عدوان على طرابلس بمواقفها وقدراتها، مع توجيه اتهامات للقاهرة بأنها تدعم حكومة منافسه فتحي باشاغا طمعا في توسيع نفوذها إلى طرابلس بعد تكريسه في المنطقة الشرقية.
الزيارة إلى الجزائر كانت قد حملت عددا من المؤشرات من أبرزها أن الدبيبة يعتبرها المكمّل العملي في المنطقة للتحالف القطري – التركي – الإخواني المرتبط بمراكز نفوذ في عدد من العواصم الغربية المؤيدة للإسلام السياسي بزعم مساندة التغيير السلمي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كما أنه كان يبحث من خلالها عن وعد بمساندة حكومته وميليشياته في أية خطوة قد يتخذانها لإعلان المواجهة مع الطرف المقابل.
ثم جاءت عودة عبدالحكيم بالحاج زعيم الجماعة الإسلامية التي وإن كانت انحلت تنظيميا إلا أن جملة ثوابتها العقائدية لا تزال قائمة لدى الميليشيات وفي فتاوى الغرياني، وضمن آليات الصراع العابرة للواقع الليبي نحو آفاق أوسع.
عاد بالحاج بعد أكثر من خمس سنوات على مغادرته طرابلس منبوذا واتجاهه نحو تركيا حيث يدير إمبراطوريته المالية التي حققها في خضم أحداث فبراير 2011، ووصل إلى مطار معيتيقة قادما من الدوحة حيث كان في ضيافة الديوان الأميري مع عدد من الدعاة ورجال الدين المندمجين في إطار التطلعات القطرية لتشكيل مؤسسة دينية تخدم مشروعها السياسي التوسعي. الدبيبة كان يتابع عودة بالحاج والمهرجان الذي أعد لاستقباله بهدف الترويج لما قد يكون له من دور مستقبلي في دعم أية مواجهة قادمة.
اللافت في الأمر أن بالحاج لم يخضع للتوقيف والتحقيق معه في المطار، رغم أن مكتب النائب العام كان قد أصدر في حقه إلى جانب إبراهيم الجضران وشعبان هدية المكنى أبوعبيدة الزاوي وحمدان أحمد حمدان وعلي الهوني ومختار الرخيص، بطاقات ضبط وإحضار منذ العام 2019 بتهمة التورط في أنشطة إرهابية، ومنها الهجوم على الحقول والموانئ النفطية وجلب المرتزقة والدفع بعناصر تشادية وسودانية للمشاركة في الحرب القائمة بين الفرقاء الليبيين، والمساعدة على تنفيذ عمليات إرهابية وخاصة في جنوب البلاد.
ورغم أن فريق التلميع المتخصص الملحق بديوان الدبيبة قد أشار إلى بالحاج بفكرة تحمل الكثير من النعومة لتهيئة البساط الأحمدي للاستقبال، وهي تحويل العودة إلى مهرجان رياضي لتكريم نادي الاتحاد، ودعمه بمبلغ مالي مهم، إلا أن اللحظة لها أبعادها المختلفة، فالفرق الرياضية تحولت منذ وصول الدبيبة إلى الحكم إلى أداة للتجاذبات السياسية والجهوية والمناطقية ويبدو أن عودة بالحاج ستقود وراءها سلسلة من الأخبار عن عودة عناصر أخرى إلى المشهد، إذ يبدو أن الدبيبة استرجع ألبوم صور الفاعلين في المشهد خلال السنوات العشر الماضية، ولاسيما من كان لهم دور في منظومة “فجر ليبيا” وفي الحرب التي شهدتها المنطقة الشرقية في مواجهة عملية “الكرامة”، وكل من يبدون عداء صريحا للجيش وينادون بإقصاء حفتر من أي دور سياسي، وبالقضاء على الجيش وبقطع الطريق أمام فكرة المصالحة الوطنية، وذلك للتحالف معهم في حربه التي يتجه لخوضها من أجل البقاء في السلطة، ولاسيما أن أغلب هؤلاء يتفقون معه على أساس مبدئي وهو أن ليبيا الثرية يجب أن تبقى تحت سيطرتهم باعتبارها غنيمة غير قابلة للتفريط فيها.
هناك مؤشرات جدية على أن الدبيبة بات يراهن على حرب جديدة ينال من ورائها زعامة سياسية تفسح له المجال للبقاء في السلطة لسنوات أخرى، أو على الأقل تطوي ملفات الفساد وإهدار المال العام التي تلاحق حكومته، والرجل لا يهمه أن تتجه البلاد إلى التقسيم الفعلي بالعودة إلى ما قبل قيام الدولة الوطنية الليبية في العام 1951، ولكن ما يهمه ويهم داعميه في الداخل والخارج، وفي عاصمتين غربيتين على الأقل، هو أن تسيطر القوات الموالية له على سرت والهلال النفطي وفزّان، وإخراج الجيش من منابع الثروة، وخلال الفترة الماضية وجد من يروّج لهذا المشروع على أنه مسعى لاجتثاث أو على الأقل تقليص الدور الروسي في ليبيا، فالإسلاميون بالذات لهم ثأر قديم مع روسيا يمكن أن يتوقف الغرياني وبالحاج على تفاصيله، وهم اليوم مدعومون ممن يريدون للحرب مع موسكو أن تتوسع إلى ما فوق حدود أوكرانيا، وعندما سعى الدبيبة لإقناع العواصم الغربية بضرورة الإبقاء عليه في الحكم، كان يبرر موقفه بأنه يخاف من سيطرة الروس على البلاد باعتبار العلاقة بين موسكو ومجلس النواب وقيادة الجيش المساندين لحكومة منافسه فتحي باشاغا.
بالطبع لا تخلو سياسات الغرب من السذاجة ويمكن الضحك عليه بسهولة عندما يتعلق الأمر باستحضار العداء لروسيا أو الصين، أو الدفاع عن شعارات الديمقراطية الوهمية التي يتبناها الإسلام السياسي، وهو ما يستغله فريق الدبيبة في الترويج لمشروعه الذي يربط فيه بين الكثير من المفردات التي تطرب العواصم الغربية، ومنها التحضير للانتخابات لإعادة الأمانة للشعب، وتحقيق الديمقراطية (بمساهمة الإخوان وتنظيم القاعدة) وحماية الدولة المدنية (برعاية الميليشيات) وتطبيق الليبرالية الاقتصادية (بأكبر قدر من إهدار المال العام) ومساندة أوكرانيا والتصويت ضد روسيا في الأمم المتحدة، والعمل على تطوير إنتاج النفط والغاز لمساعدة الأوروبيين في خطتهم للاستغناء عن النفط والغاز الروسيين، ولكن كيف يتم ذلك إذا كانت الحقول والموانئ تحت سيطرة الجيش؟ ربما لا حل سوى الحرب.
في الوقت الذي تتبنى فيه الحكومة الجديدة المنبثقة عن البرلمان مقترحات واقعية للخروج بالبلاد من أزمتها المستفحلة منذ 2011، من بينها الانتهاء من توحيد المؤسسات وتحقيق المصالحة الشاملة والإعداد الواقعي لانتخابات تحترم إرادة الليبيين ومقاومة الفساد وبناء أسس علاقات صحية مع المحيط والعالم، وبينما أصبحت حكومة باشاغا أمرا واقعا في شرق وجنوب البلاد، يقوم الدبيبة بتوفير كل الآليات الممكنة للدفع بليبيا نحو حرب جديدة، ومعه كل شروط النزاع: فتاوى الغرياني وشبكات بالحاج والمرتزقة والميليشيات والقوات الأجنبية والتحالف مع الإخوان وخطاب الفتنة والكراهية ولوبيات الفساد ودبلوماسية الصفقات المشبوهة وعقود التلميع في الخارج والارتباط بمحور تصفية الحسابات في المنطقة.
كل ذلك وستيفاني ويليامز لا تزال تتحدث عن انتخابات قادمة ويونيو، موعد نهاية مبادرتها، على الأبواب.