بقلم: حسن إسميك – النهار العربي
الشرق اليوم – من الصور التي نراها تتوارد اليوم إلينا من حرم المسجد الأقصى الشريف، نشعر نحن العرب المسلمين بمشاعر ممزوجة من الغضب والحزن والإحباط وخيبة الأمل والخوف مما تفعله السلطات الإسرائيلية مجدداً من اعتداء على المصلين في المسجد، وحماية مجموعات المقتحمين المتطرفين باستخدام الرصاص والغاز المسيل للدموع، والاعتقالات العشوائية للمصلين العزّل، ناهيك عن السماح بمسيرة الأعلام وما تقوم به من استفزازات تعيد عملية السلام إلى نقطة الصفر.
وبدلاً من أن تسعى إسرائيل لإثبات حسن نيتها في أيام الأعياد اليهودية والمسيحية والإسلامية، نرى أنها قررت استفزاز المسلمين وتأجيج مشاعرهم في شهر رمضان الفضيل دون الاكتراث بما يعنيه للشعوب العربية والإسلامية، وأدت ملاحقتها للشبان الفلسطينيين إلى وقوع عدد كبير منهم بين جريح وشهيد، ولم تلق بالاً للضريبة الباهظة التي سيدفعها الجميع، وفي مقدمتهم إسرائيل نفسها جراء سلوكها العدواني والظالم هذا.
إن ما تفعله إسرائيل اليوم في القدس عموما، وفي حرمة المسجد الأقصى على وجه الخصوص، لن يؤدي إلا إلى استمرار عزلتها عن محيطها. علاوة على ذلك، فإنها تدفع حلفاءها الجدد، والمتوقع انضمامهم أيضاً، ممن يراهنون على السلام ويأملون في أن تحقق اتفاقيات إبراهام التقارب المنشود بين أبناء الديانات السماوية الثلاث، تدفعهم جميعاً لإعادة احتساب تقدمهم بطريقة قد تكون بمثابة ضربة نهائية وقاتلة لقيام السلام.
تخاطر إسرائيل بكل ذلك من أجل بعض الحسابات السياسية الضيقة لحكومة بينيت وفشلها في الالتزام بما يتطلبه السلام، خصوصاً استعدادها للتخلي عن العدوان وتجنب استخدام القوة ضد الشعب الفلسطيني. تتجاهل إسرائيل هذا كله حين تستخدم الدين وسيلة للظلم فتعمق الشرخ بدل رأبه وفق ما تعهدت به في اتفاقيات إبراهام.
وفي الحقيقة فقد أحيت اتفاقات إبراهام الأمل مجدداً لدى شعوب المنطقة بإمكانية السير نحو سلام يشمل الجميع ولو بشكل تدريجي، ويحقق اندماج إسرائيل في محيطها، وهو برأيي السبيل الأمثل للحفاظ على أمنها وجعلها شريكاً لدول المنطقة في مواجهة الأخطار الناشئة الأخرى التي تهددها جميعا.
من شأن هذا السلام أيضاً أن يفتح الباب أمام بعض الدول العربية التي عانت من أوضاع اقتصادية وسياسية بالغة السوء منذ اندلاع ما سمّي الربيع العربي، فهذه الدول في حاجة ماسة لالتقاط أنفاسها من جديد، والانتقال نحو تغيير تنموي حقيقي يقوم على إنهاء الحروب التي أنهكتها طويلاً وبلا فائدة. وكان الأجدر بإسرائيل أن تحسن التعامل مع تغير الموقف العربي وحماسه غير المسبوق باتجاه السلام، والذي عكسه خلال السنتين الماضيتين تبدلاً في المزاج العام نحو تقبل وجود إسرائيل في المنطقة كدولة فاعلة وشريك مهم، فهل ستقضي الأحداث التي تشهدها القدس اليوم على هذا التوجه؟!
في الحقيقة، إن ما تقوم به إسرائيل من تصعيد يثير مجموعة من الأسئلة لعلّ أكثرها أهمية: هل تريد إسرائيل السلام؟ أم أنها ببساطة عاجزة عن تحقيقه والوفاء بالتزاماته؟
في شرحه لعنوان كتابه الأخير “المصيدة 67: اليسار واليمين وإرث حرب الأيام الستة”، قال الفيلسوف الأميركي الإسرائيلي ميخا غودمان، والذي يقدم المشورة لكل من رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت والرئيس جو بايدن: “يشعر معظم الإسرائيليين أنه إذا بقينا في الضفة الغربية، فلن يكون لنا مستقبل وإذا غادرنا الضفة الغربية، فلن يكون لنا مستقبل”.
يعتقد غودمان أن أي حكومة إسرائيلية سواء كانت يمينية أو يسارية لن تستطيع الدخول في عملية السلام، فالحكومة اليمينية لن تستطيع الانسحاب من الأراضي الفلسطينية نظراً لتمسكها بالتفسير التلمودي لأرض إسرائيل ولا تستطيع حكومة يسارية ذلك بسبب الإصلاحات والمخاوف الأمنية.
وإذا كانت إسرائيل غير قادرة على الدخول في السلام، سواء بدافع بعض التعليمات التلمودية المتحيزة، أو بحجة الأمن، فإنها تبقى مسؤولةً عن إراقة الدماء وهدم المنازل واقتحام الأماكن الدينية، كما لا يلغي ذلك مسؤوليتها عن حماية الفلسطينيين وفقاً للقانون الدولي المتعلق بحقوق الإنسان.
وإذا صحّت تحليلات “غودمان” بأن إسرائيل غير قادرة على تحقيق السلام مع الفلسطينيين، فمن المستحيل على إسرائيل ضمان وجودها في المنطقة، إذ من المسلم به أن السلام لن يتحقق بسهولة وسلاسة، إذ أن تحولاً مهماً كهذا يستلزم أن يقبل الجميع بتغيير المواقف والاعتبارات السابقة على تحققه، ولن تستطيع إسرائيل أن تشذّ عن هذه القاعدة، خاصة وأنها لم تحرز حتى الآن سوى بعض التقدم في المسار السلمي الذي يتضمن قائمة طويلة من المبادرات والخطوات الإضافية التي يجب أن تخطوها إسرائيل لإثبات رغبتها الحقيقية في السلام، على العكس تماماً من سلوكها العنيف والمستفز في زمان ومكان يحملان قدسية عالية لدى جميع المسلمين.
لعلنا نحتاج إلى تذكير إسرائيل، مجددا، بأن أيّ انتكاسة من هذا النوع على طريق السلام العربي- الإسرائيلي لن تخدم سوى إيران التي تنتظر أي تصرف من هذا النوع لاستغلاله في إشعال الاضطرابات والحروب مجدداً.
لقد آن الأوان لتتجنب إسرائيل أسلوب الغطرسة والاستفزاز الذي مارسته وما زالت تمارسه ضد الفلسطينيين، فقد سيطرت تدريجياً وبشكل غير قانوني على الجزء الأكبر من الأراضي الفلسطينية، ودفعت الفلسطينيين إلى جزء صغير من الأراضي التي، وبموجب القانون الدولي، تعتبر وطنا لهم.
إضافة إلى ذلك، فإن السياسة التي تتبعها الحكومة الإسرائيلية على قاعدة:” من يمتلك القوة والإرادة هو الذي يكتب التاريخ” قد أثبتت فشلها، خاصة بعدما تبين للجميع أن التغيير هو الثابت الوحيد في السياسة، وأن الظروف التي تشهدها المنطقة والمرحلة المصيرية التي تمرّ بها دولها، تستدعي أن تعمل إسرائيل على تغيير سلوكها والدخول في مفاوضات جادة مع الفلسطينيين بهدف إيجاد حل حقيقي ودائم للقضية التي راح ضحيتها الملايين من الطرفين.
أشرت سابقاً في إحدى مقالاتي إلى أنه ومنذ أن أزيح بنيامين نتنياهو من السلطة، يسود رأي عام –داخل إسرائيل وخارجها– مفاده أن الحكومة الحالية تفتقد القدرة على تحقيق أية إنجازات سياسية كبرى، يصل هذا الرأي إلى حد اعتبارها حكومة “تصريف أعمال” لا أكثر، واليوم ترتفع الأصوات أعلى من قبل حول اقتراب سقوط حكومة بينيت، وهذا ما يلزمه بالتحلي بالشجاعة واتخاذ القرار بتجنب الوصول إلى انفجار أزمة سياسية تطيح بحكومته سريعاً. لكن وعلى المقلب الآخر، تشير بعض الآراء إلى أنه ربما يسعى لاستمالة المتطرفين من خلال التغطية على عدوانهم في المسجد الأقصى، فيضمن بذلك استمرار سلطته، ومهما يكن الحال فإن التكلفة ستكون باهظة في حال لم ترتدع السلطات الإسرائيلية عن عملها هذا.
أمر آخر ينبغي على الإسرائيليين التنبه له، وهو أن الإدانات الواسعة بدأت تأخذ منحىً أكثر جدية مع قيام الخارجية الإماراتية باستدعاء السفير الإسرائيلي للإعراب عن عدم رضاها ورفضها لسلوك الحكومة الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني، كما وجهّ جلالة الملك عبدالله الثاني الأحد الفائت بالاستمرار في الجهود الإقليمية والدولية لوقف الخطوات الإسرائيلية التصعيدية، وبلورة موقف دولي ضاغط ومؤثر، باعتبار أن حماية القدس ومقدساتها ستبقى أولوية أردنية، وشدد الملك على وجوب أن تحترم إسرائيل الوضع التاريخي والقانوني القائم في المسجد الأقصى المبارك/ الحرم القدسي الشريف، ووقف جميع الإجراءات اللاشرعية والاستفزازية التي تخرق هذا الوضع وتدفع باتجاه المزيد من التأزيم..
رغم كل هذا، تتجاهل إسرائيل عشرات الإدانات التي تصدر من الدول العربية والإسلامية. بل ما زالت مصرة على السماح لإعلامييها وصحفييها بالاستمرار في خطابهم التصعيدي الذي لا يمت للحكمة بصلة، ولا يقيم أي اعتبار للأعراف السياسية والدبلوماسية، ولعل أشهر الأمثلة على ذلك تصريحات الأكاديمي والمحلل السياسي المقرب من الحكومة إدي كوهين، والذي يبدو منذ عدة سنوات وكأنه يعتاش على هدم اللبنات القليلة التي شُيّدت حتى الآن على طريق السلام. إن تغاضي إسرائيل عن كل هذا لن يؤدي لاستبعاد فرص السلام الجديدة فحسب، بل وتهديد ما هو قائم منها الآن.
أخيرًا، ثمة نتيجة واضحة وحاسمة لما تقوم به إسرائيل في القدس اليوم، وهي إعادة عملية السلام إلى المربع الأول مرة أخرى. لذلك يتوجب على الإسرائيليين أن يراجعوا حساباتهم سريعاً في حال كانت لديهم رغبة جادة في السلام حقاً. وإلا فلن يغفر لهم التاريخ إضاعة الفرصة بتجاهلهم الأيادي الصادقة التي امتدت نحوهم من أجل السلام.
إذن، على إسرائيل أن تتحول عن أساليبها القديمة وتجتث جذور غطرستها السياسية قبل أن تشعل النار من جديد وتخسر جميع حلفائها. فالسلام لا يمكن أن يتحقق اليوم إلا بضمان الالتزام المتبادل بين جميع الأطراف لما فيه نفع الكلّ. أما الغطرسة والاستقواء والتطرف فستبقى، وكما أكّد التاريخ مراراً، سبب مقتل كلّ سلام.
التصعيد في القدس هذه المرة، وخلافاً لكل الحالات السابقة، سيجعل خسارة الإسرائيليين أكبر مما سيخسره الفلسطينيون إذا أصرت إسرائيل أن تبقى معزولة عن محيطها في ظل الظروف الإقليمية والدولية الحالية.
نشر أولاً في الجيروزاليم بوست