الرئيسية / مقالات رأي / بين عزم بايدن وعناد بوتين: العالم اليوم بلا نظام عالمي ولا قواعد له

بين عزم بايدن وعناد بوتين: العالم اليوم بلا نظام عالمي ولا قواعد له

بقلم: راغدة درغام – النهار العربي


الشرق اليوم – الرئيس الأميركي جو بايدن يزداد تصميماً على هزم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا وعلى تقزيم “البوتينية” في روسيا، وبات يغامر باضطراره إلى خوض الحرب الأوكرانية بصورة مباشرة لأنه دخل النفق، ولن يعود إلى الوراء. فالمعركة مصيرية بالنسبة إلى الولايات المتحدة وأوروبا وهي معركته التاريخية شخصياً – أو هكذا ينظر جو بايدن إلى حرب روسيا على أوكرانيا التي جعلت منه قائداً نشيطاً لحلف شمال الأطلسي (الناتو) ونقلت العلاقات بين واشنطن وموسكو إلى خانة أكثر سخونة من الحرب الباردة.
الرئيس الروسي، من جهته، يزداد تصميماً على النصر والانتصار في حربه على أوكرانيا، ولن يتراجع حتى ولو أدّت التطورات الميدانية إلى حربٍ موسّعة بين روسيا وحلف “الناتو”. فالمسألة وجودية لفلاديمير بوتين الذي يجد نفسه الآن في ورطة مضاعفة غير قادرٍ على الانتصار عسكرياً وغير قادرٍ على التراجع في ساحة المعركة، وغير قادر على مفاوضات سياسية جدّيّة وأيضاً على الانسحاب التام من المفاوضات. لكن فلاديمير بوتين عازم على كتابة التاريخ، وفي جعبته أدوات. الحرب الأوكرانية تدخل اليوم مراحل بالغة الخطورة من ماريوبول إلى دونباس، من شحنات الأسلحة الغربية المتطوّرة لأوكرانيا إلى اختبار الصاروخ الروسي العابر للقارات “سارمات”. فالخطوط الحمر تزداد بين روسيا والغرب.
أوروبا في عين العاصفة إذا ما توسّعت الحرب الروسية إلى أبعد من أوكرانيا، لكن الولايات المتحدة لن تبقى لاعباً من بعيد ولمثل هذا التطور تداعياته أميركياً على “البايدنية”.
تلك “البايدنية” تبدّل شكلها منذ أن خاضت “البوتينية” مغامرتها المصيرية في أوكرانيا، فتحوّل الرئيس جو بايدن من هوس إنجاز الصفقة النووية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية كيفما كان إلى الانغماس كليّاً في الأولوية الأوكرانية ومواجهة روسيا وليس فقط مواجهة “البوتينية”.
لم تعد إعادة إحياء الاتفاق النووي مع طهران JCPOA تتربّع على سلّم الأولويات لدى إدارة بايدن، ولم تعد روسيا شريكاً للولايات المتحدة في إبرام تلك الصفقة. تراجعت حظوظ “الحرس الثوري” الإيراني الذي كان يتهيّأ لقفزة ضخمة في نشاطاته ومكانته في ظل رفع العقوبات عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية وذلك بعدما تصادفت وتزامنت عنجهيّته مع مغامرة روسيا الأوكرانية. فطهران أصرّت على حذف “الحرس الثوري” عن قائمة الإرهاب بثقة عارمة بدعمٍ روسي – وأوروبي أيضاً – لهذا الطلب، نظراً لتعمّق “الحرس الثوري” في إدارة إيران بكاملها وليس فقط سياستها الخارجية، وبالتالي تكبيل الاستفادة من رفع العقوبات طالما “الحرس الثوري” على قائمة الإرهاب.
الآن، تجد طهران نفسها بين شقيّ المواجهة الأميركية – الروسية. تحاول تسويق “الوعد” في أن “الحرس الثوري”- الذي ينفّذ الإشراف على ميليشيات في دول سيادية تأخذ تعليماتها من طهران وتنفذ أوامره في لبنان والعراق وسوريا واليمن- لن يقوم بعمليات خارج إيران. لا أحد يصدّق هذا “الوعد” لأنه عمليّاً وفعليّاً، لو صَدَق، يعني إعادة رسم هوية الجمهورية الإسلامية الإيرانية القائمة على مركزيّة “الحرس الثوري” في النظام وتصدير نموذجه إلى الجغرافيا العربية.
ثم هناك التطوّرات الإسرائيلية التي بدورها تسكب بعض الماء البارد على حماسة إدارة بايدن نحو إتمام الصفقة مع إيران، بما في ذلك تحرك داخل الكونغرس وكلام صادر عن طهران. فلقد نقلت “الجزيرة” عن مصدر إيراني أن طهران أرسلت إلى تل أبيب عبر دولة أوروبية ملفاً يتضمن صوراً وخرائط لمخازن السلاح النووي والبيولوجي والكيماوي الإسرائيلي، مشيرة إلى ان هذه المواقع والمنشآت ستكون هدفاً لها في حال قررت إسرائيل إشعال حرب ضدها. وكان الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، حذّر الأسبوع الماضي من أن طهران قد تستهدف إسرائيل في حال قيامها بأي “تحرك صغير” ضد إيران. إضافة إلى ذلك، إن تفاقم المواجهة الفلسطينية – الإسرائيلية يفرض القيود الإضافية على حركة فريق بايدن المعني بالملف الإيراني على الرغم من أن المبعوث الأميركي لإيران، روبرت مالي، كان يعتبر نفسه معنيّاً حصراً بالمفاوضات النووية وليس بنشاطات إيران الإقليمية. فالوقائع فرضت على مالي توسيع أفق ما اعتمده، وهذا لم يكن في حسابه أو حساب طهران.
الأهم من كل ذلك هو أن الرئيس نفسه بات مهتماً بالملف الأوكراني عشرات أضعاف اهتمامه بالملف الإيراني – وهذا يفرض لعبة جديدة بقواعد جديدة، بأولويات مختلفة. الإيرانيون يدركون أنه من غير الواقعي توقع أي تحرك إيجابي فوري في الملف النووي حتى وإن كان هناك كلام مباشر أو غير مباشر حول أهمية ومركزية النفط الإيراني في زمن العقوبات على النفط الروسي. فمسألة “الحرس الثوري” وضعت عصا في العجلة، كما غياب روسيا عن دورها التقليدي في المفاوضات النووية، كما التطورات الإسرائيلية.
الرئيس بايدن يبدو أنه عقد العزم على تلقين فلاديمير بوتين درساً مصيرياً ويبدو جاهزاً للمضي قُدماً بإجراءات قد تكون خطيرة. إدراج روسيا على قائمة الدول الراعية للإرهاب يتطلّب إجراءات أميركية وأوروبية، بل وعالمية، ضد روسيا. الرئيس بوتين ينظر إلى مثل هذا التصنيف كـ”خط أحمر” يؤخذ بجدّيّة بالغة، لا سيّما أن الإجراءات المترتبة على التصنيف ستؤدّي إلى انهيار العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وروسيا.
اختبار الصاروخ الروسي البالستي العابر للقارات “سارمات” هذا الأسبوع لم يكن مفاجئاً للولايات المتحدة التي أعلنت أن موسكو أحاطتها علماً بتوقيت الاختبار. لكن التوقيت يبقى مهمّاً بدلالات جدّيّة. الرئيس الروسي قال في المناسبة أن هذا الصاروخ “لن تكون له نظائر في العالم لفترة طويلة، وسيجعل أولئك الذين يحاولون تهديد روسيا يعيدون التفكير”.
ليس احتمال إدراج روسيا على قائمة الدول الراعية للإرهاب، العنصر الوحيد وراء الاختبار الصاروخي وإنما أيضاً تدفق الأسلحة الأميركية إلى أوكرانيا في خضم المعارك الصعبة، إلى جانب ضرب الحصار الاقتصادي على روسيا بالتزامن مع دعم أوكرانيا مالياً واقتصادياً وليس فقط عسكرياً. فهدف صاروخ “سارمات” أميركي بامتياز، واختباره رسالة جدّيّة من بوتين إلى بايدن. فالولايات المتحدة، بالنسبة إلى موسكو، هي المموّل الأساسي لأوكرانيا، والمسلّح الأكبر لها، وهي المصدر الأوّل لمشاكل روسيا، كما أنها تدير حرب أوكرانيا كاملاً حتى وإن لم تكن تخوضها بقواتٍ أميركية.
من وجهة نظرٍ عسكرية، لا مناص من استهداف روسيا لشحنات الأسلحة الأميركية والأوروبية وقصف سكك الحديد لتعطيل إيصال الشحنات إلى الجيش الأوكراني. هكذا فقط يمكن للجيش الروسي التحرّك إلى المرحلتين الثانية والثالثة من عملياته العسكرية في أوكرانيا. سياسياً، الأمر مُكلِف غالياً لروسيا. عمليّاً إن تدمير شحنات أسلحة حلف شمال الأطلسي يعني توسيع الحرب لتكون بين روسيا و”الناتو”، بما في ذلك بين روسيا والولايات المتحدة حتى وإن كانت ساحة الحرب أوروبية … هذا ما لم تجد الصواريخ البالستية طريقها إلى مثل تلك الحرب، فتصبح مباشرة روسية – أميركية. وزارة الخارجية الروسية بدأت تمهّد بقولها إن شحنات “الناتو” العسكرية إلى أوكرانيا تجعل من هذه الشحنات أهدافاً شرعية للجيش الروسي.
فماذا ستفعل إدارة بايدن إذا قامت القوات الروسية بتدمير سكك الحديد الممتدة من بولندا إلى أوكرانيا بما عليها من شحنات أسلحة أميركية؟ لا سيّما وأن تدميرها يعني عملية عسكرية مباشرة ضد عتاد وأسلحة أميركية. وهل الدول الأعضاء في حلف “الناتو” جاهزة لحرب أوروبية أو أنها لا تأخذ التهديدات الروسية على محمل الجد؟ ومن سيدفع الثمن الأكبر لحرب أوروبية أم أن روسيا وأوروبا معاً ستهبطان إلى الحضيض إذا ما توسّعت حرب روسيا على أوكرانيا إلى حرب بين روسيا وحلف شمال الأطلسي؟
التحديات العسكرية أمام روسيا داخل أوكرانيا تزداد يومياً وستتكاثر. حتى وان تمكّنت روسيا من الاستيلاء على ماريوبول، فإن التوجّه إلى المرحلة الثانية في دونباس مفعمة بالمخاطر. الانتهاء من ماريوبول يشكّل محطة ضرورية كي تتمكّن القوات الروسية من التركيز على دونباس. والسؤال الأصعب أمام فلاديمير بوتين هو ماذا ستفعل القوات الروسية بحوالى 60 ألفاً من القوات الأوكرانية في دونباس وهي القوات المدرّبة والمشبّعة كراهية للقوات الروسية؟ هذه قوات سترفض الاستسلام، وهي تابعة لحكومة أوكرانية ترفض معاهدة الاستسلام التي يطالبها بها فلاديمير بوتين.
ماذا سيفعل الرئيس الروسي بالقوات الأوكرانية في دونباس؟ هل سيسحقها لأنه لن يتمكّن عسكرياً من الانتهاء من المرحلة الثانية من خططه العسكرية في أوكرانيا ما لم يفعل ذلك؟ وكيف سيتصرّف العالم أمام سحق 60 ألف جندي مطوّق؟ المعضلة كبيرة لأن “تحرير” دونباس يتطلّب سحق الجيش الأوكراني هناك. والانتقال إلى المرحلة الثالثة في أوديسا وكييف وخاركيف يتطلّب الانتهاء من عملية دونباس كما يتطلّب المزيد من القوات الروسية.
ما لم يكن في حساب القوات الروسية هو هذه الحرب الطويلة والتي ستطول أكثر وربما تتطوّر إلى مجهول. هذه الحرب تزداد كلفتها على روسيا لأن موسكو كانت تتوقّع الانتهاء منها باكراً قبل أن تلاقي المقاومة الشرسة من أوكرانيا ووراءها الدعم اللوجستي والمعنوي والمادي والعسكري من حلف شمال الأطلسي.
فإذا كانت ماريوبول صعبة المنال، سيجد الجيش الروسي نفسه في وضع أصعب في دونباس حيث قد يضطر إلى تصفية 60 ألف جندي إذا كُتِبَ له النجاح عسكرياً. أما أوديسا، فإنها عسكرياً أصعب بأربعة أضعاف لأن البحر قبالتها والسفن الروسية معرّضة للاستهداف.
معنويّاً أيضاً، تقع القوات الروسية تحت ضغوط جمّة وتزداد خيبة الأمل الروسية الشعبية بما فضحته الحرب الأوكرانية حول الجيش الروسي وقدراته الضعيفة واستخباراته الخاطئة.
في نهاية المطاف، لن نعرف كيف ستتطوّر الحرب الأوكرانية. لعلّ فلاديمير بوتين يعرف قليلاً أو جو بايدن يعرف كثيراً. المشكلة أنهما دخلا نفق المواجهة بلا مخرج أو عودة. ولذلك نرتجف جميعاً.

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …