بقلم: رفيق خوري – اندبندنت عربية
الشرق اليوم- غداً يوم آخر في فرنسا. وأمس أيضاً كان يوماً آخر، لكن الطبقة السياسية الفرنسية لم تشأ الاعتراف بالتغيير الذي حصل. تغيير كان يتراكم بهدوء على مراحل حتى جاءت المفاجأة الكبيرة قبل خمس سنوات، من خارج اللاعبين شارك إيمانويل ماكرون في اللعبة وربح متخطياً “أفيال” الأحزاب التقليدية.
ومن خارج اللاعبين جاءت مارين لوبن زعيمة “التجمع الوطني” اليميني المتطرف لتكرس نفسها بين اللاعبين المقبولين. هي الخصم الذي يفضل ماكرون أن ينافسه في الجولة الثانية الحاسمة من الانتخابات الرئاسية غداً، لأن الخوف من نجاحها يدفع الناخبين الذين ينتقدون ماكرون “رئيس الأغنياء” إلى التصويت له، تماماً كما كان والدها جان ماري لوبن زعيم “الجبهة الوطنية” المتشددة الخصم الذي ارتاح الرئيس جاك شيراك لمنافسته.
وماكرون الخصم الذي تستطيع لوبن تسديد الضربات إليه بسهولة، لأنه ليس في اليمين ولا في اليسار ولا عملياً في الوسط. إنه شخص متفرد يظن أنه “الملك”.
كان وصول ماكرون إلى الرئاسة واختراع حزب “الجمهورية إلى الأمام”، الذي نما كالفطر، علامة “انقلاب” في الجمهورية الخامسة. فقد انتهى تداول السلطة بين الحزب الديغولي الذي قدم خمسة رؤساء وبين الحزب الاشتراكي الذي قدم رئيسين.
الحزب الشيوعي الذي لعب دوراً كبيراً في سياسة اليسار بعدما لعب الدور المهم في مقاومة الاحتلال النازي، خرج من المشهد تقريباً في الجولة الأولى التي أجريت قبل أسبوعين. كذلك الأمر بالنسبة إلى الحزب الديغولي الذي نالت مرشحته فاليري بيكريس 4.8 في المئة من الأصوات، والحزب الاشتراكي الذي كان نصيب مرشحته رئيسة بلدية “إيل دو فرانس” آن هيدالغو مجرد 1.8 في المئة.
58 في المئة من الأصوات حصل عليها اليمين واليسار المتطرفون. أما ربع الناخبين فقاطع الانتخابات. والربع الباقي صوت لماكرون.
وبكلام آخر، فإن الجمهورية الخامسة تبدلت، لكن ماكرون تمسك بدستورها الذي يعطي الرئيس صلاحيات “شبه ملكية” في نظام “نصف رئاسي”. وهو كان يقول، إن الفرنسيين يبحثون عن “رمز ضائع” هو الملكية. وكان يراهن على القول الشائع في باريس، “فرنسا لا تتغير إلا وظهرها إلى الحائط”. وهي تغيرت كثيراً. لم تعد تشبه نفسها التي تعتز وتفاخر بها، ولا تشبه أوروبا التي تطمح إلى قيادتها.
أوروبا لا تزال محكومة بالتنافس بين أحزاب اليمين الوسط واليسار الوسط. وفرنسا صارت خارج الأحزاب التاريخية لليمين واليسار الوسط. من يتصدر الحراك السياسي السلطوي فيها هو اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبن، واليسار المتطرف بزعامة جان لوك ميلانشون، واللا يمين واللا يسار بزعامة إيمانويل ماكرون.
لكن ماكرون أوروبي الهوى. مختصر برنامجه هو “أمة فرنسية أكثر استقلالاً في إطار أوروبا أقوى”. ومشكلة ممارساته العجز عن تحقيق برنامج إصلاحي داخلي، والمبالغة في دور فرنسا الأفريقي والأوروبي والمتوسطي والخليجي والدولي، أما لوبن، فإنها تغالي في فرنسيتها إلى حد الرغبة في التخلص من اللاجئين إليها، لا سيما المسلمين منهم، والحرص على العودة من الاتحاد الأوروبي إلى “تحالف أوروبي للأمم”.
كثيرون يتخوفون من ألا تكتفي لوبن بالخروج من قيادة الحلف الأطلسي وتعديل الدستور ليصبح “القانون الفرنسي فوق القوانين الأوروبية”، لتصل إلى طرح استفتاء من أجل الخروج من الاتحاد الأوروبي “فريكست” على طريقة الخروج البريطاني “بريكست”. والمفارقة لافتة، إذا خسر ماكرون المعركة الرئاسية، فإن حزبه سيختفي ويصبح مجرد ذكرى لحدث عابر. وإذا خسرت لوبن، فإن جمهورها لن يختفي، وحزبها يبقى في انتظار فرصة أخرى.
واللعبة الانتخابية معبرة، ماكرون يتوجه يميناً أكثر ليزايد على لوبن، ويتبنى بعض مطالب اليسار ليغازل ناخبي ميلانشون. ولوبن تخفف من التطرف اليميني لتربح في الوسط وتطرح برنامجاً لتحسين المعيشة لتربح في اليسار. والتشابه مقلق، لا شفاء لهوس كل من ماكرون ولوبن بالحوار مع الرئيس فلاديمير بوتين والرهان على أن تصبح روسيا جزءاً من أوروبا، في حين يحارب بوتين في أوكرانيا ليؤكد أن روسيا هي قطب مقابل لأوروبا. والمهم ليس فقط من يربح الرئاسة غداً، بل ماذا بعد غد؟