بقلم: محمد خليفة – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – ثمة وقائع في التاريخ لا تشكل منعطفات تاريخية فحسب؛ بل تشكل أيضاً تأريخاً لأنظمة سياسية وقانونية كذلك. ولكي نفهم التاريخ فهماً عميقاً علينا أن ننظر إليه نظرة تركيبية تحليلية، أضف إلى ذلك أن التاريخ لم يكن، ولن يكون البتة، شيئاً مستقلاً عن العنصر الرئيسي في مسيرته ألا وهو الإنسان، فهو شكلاً وموضوعياً قصة الإنسان على سطح هذا الكوكب، منذ نشأته حتى نهايته.
وإذا اعتمدنا المعايير الميكانيكية وسيلة لفهم عالم تحولات القوة المادية التي كانت، ولا زالت، الملاذ النهائي لجميع القوى العظمى، أدركنا أن الحرب الباردة كانت بيئة امتصاص للنماذج الحادة والمنفلتة لاستخدام القوة، على الرغم من كل تداعياتها السالبة.
وربما أمكن القول إن أبرز من نظروا إلى مفهوم القوة في العلاقات الدولية كان الإيطالي ميكيافيلي، وهو صاحب منهج يُعرف بـ«الميكيافيلية» الذي يُعد مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة» أحد أهم مبادئه الأساسية على الإطلاق. وقد انطلقت أفكار متشابهة، كانت قد صدرت قبل نحو عقدين من الزمن، من قبل أشخاص دعوا إلى اتباع سياسات متشددة تجاه الاتحاد السوفييتي، تتجاوز في مداها الاحتواء التقليدي، وفي الاحتواء سياسة ملائمة، حتى وإن حكموا بواسطة إرادة القوة لا بواسطة إرادة الضمير.
ومن المهم في هذا السياق، أن نشير إلى أن المسافة بين السويد وحلف «الناتو» تتقارب في وقت تشتد فيه المواجهة بين روسيا من جهة، والغرب بقيادة الولايات المتحدة من جهة أخرى عبر الحرب الأوكرانية، ويبدو من هذا التقارب، أن تلك الدول الإسكندنافية، الموجودة في شمال القارة الأوروبية، تريد أن تتخلى عن حيادها الذي ظل مستمراً نحو مئتي عام، والانخراط في التسليح والعسكرة، جنباً إلى جنب مع حلف شمال الأطلسي.
وفي هذا الصدد دعا عدد من أعضاء البرلمان السويدي، الحكومة إلى عدم التخلي عن فكرة انضمام البلاد إلى حلف شمال الأطلسي، لمواجهة «التهديد الروسي». وفي موقف يؤكد أنها لم تعد دولة محايدة، أو أنها تخلت في السر، عن هذا الحياد، مع تغير الظروف بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وبالتبعية انهار حلف وارسو، وعودة روسيا إلى مكانتها كدولة عظمى ذات توجهات قومية في أوروبا. أما فنلندا فهي من الدول الأوروبية التي تتمتع بعضوية الاتحاد الأوروبي، ولكنها ما زالت، حتى اللحظة، خارج مظلة حلف «الناتو»، ولعل السبب الأساسي الذي جعلها بعيدة حتى اللحظة عن الانخراط في هذا الحلف، كونها ارتبطت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بعلاقات متميزة مع الاتحاد السوفييتي السابق بسبب معاهدة صداقة تم توقيعها بين الدولتين بعد هزيمة فنلندا التي كانت حليفة لألمانيا النازية تعهدت الدولتان من خلالها بالدفاع عن بعضهما بعضاً ضد التهديدات الخارجية.
وكانت فنلندا من الناحية العملية جزءاً من منطقة نفوذ الاتحاد السوفييتي طوال فترة الحرب الباردة، ولذلك رفضت هذه الدولة مساعدات «مشروع مارشال» الأمريكي، لإعادة بناء ما تهدم في دول أوروبا أثناء الحرب؛ لأن الاتحاد السوفييتي كان يرى أن هذه المساعدات هي غطاء للهيمنة والسيطرة الأمريكية على تلك الدول، ولذلك التزمت فنلندا بموقفه، غير أن الولايات المتحدة سعت إلى تقديم مساعدات مالية إلى الحزب الديمقراطي الاشتراكي غير الشيوعي الفنلندي، أملاً في الحفاظ على استقلال فنلندا.
ومنذ ذلك الوقت بدأت السياسة في فنلندا تميل نحو الغرب، حتى انضمت إلى الاتحاد الأوروبي، وأصبحت بعد ذلك جزءاً من منطقة اليورو، ثم بدأت العداوة بين روسيا والاتحاد الأوروبي إثر اقتطاع روسيا للقرم من أوكرانيا وضمّها إليها، فقد بدأ يتشكّل رأي عام في فنلندا يُبدي قلقه من «تهديدات عسكرية» مصدرها روسيا، وهو ما جعل معظم الأحزاب السياسية الفنلندية مؤيدة لفكرة انضمام بلادها إلى حلف «الناتو»، على الرغم من علمها بمدى خطورة ذلك على العلاقات الروسية الفنلندية.
وفي التجارب الراهنة يمكن القول إن التحول السويدي والفنلندي يستهدف في الأساس تأكيد أن القوة ضرورية، وأن حلف «الناتو» يمتلك الكثير من أسبابها، حيث تستلزم ديناميكية الحركة العامة للقوى التاريخية، وإعادة النظر في التطورية أو التحول عن الحياد، قبل أن يحجبهما لهب الأحداث وغبارها عن الأنظار، ويغيبهما في أتون الأحداث الكبرى والمنعطفات الراهنة، كما وقع لبعض الدول التي كانت في غفلة عن هذا المصير.