بقلم: عبدالله السيد الهاشمي – صحيفة “الاتحاد”
الشرق اليوم – ينشغل المفكرون وعلماء السياسة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بالنقاش والجدال والتحليلات التي تبحث في ماهية مستقبل النظام العالمي المقبل، أو الذي نذهب إليه، طوعاً أو كراهية، وجاءت الحرب الروسية – الأوكرانية لتخلط كومة الأوراق والتنبؤات، وتجعل معظمهم، يتوقف مصدوماً متوجساً، والبعض الآخر يسرع لتعديل حساباته كلها.
إلى وقت ليس ببعيد، كان هناك معسكران من المفكرين، الأول يشدد على نمو وتصاعد نظام عالمي يخضع للقطب الواحد الأميركي، بني على أنقاض تفكيك الاتحاد السوفييتي عام 1990، وما زالوا يجادلون في صحة هذا النموذج، وهل اكتمل وأصبح آيلاً للسقوط، أم أنه مازال يتسع ويمتد، والمعسكر الثاني رأى بأن صعود الصين، كقوة اقتصادية وعسكرية، سوف يعيد التوازن للنظام العالمي القطبي، الذي يتحدث عنه مناصرو المعسكر الأول، أو يحل محله، وتوقعوا أن يحدث ذلك في زمن أقصاه عام 2027.
وبالطبع، فإن قراءات وتحليلات كثيرة سابقة، لم تجد للصين مكاناً في قيادة نموذج لنظام عالمي جديد، أو قطب موازٍ، باعتبار أن الصين هي قوة اقتصادية أكثر منها قوة عسكرية، وقد لا يأتي اليوم الذي قد تسبق فيه الصين الولايات المتحدة من ناحية عسكرية، إضافة إلى أن قوتها الاقتصادية، تقاس في مقارنات الناتج المحلي الإجمالي وحجم الاقتصاد الكلي، وليس حول معدل دخل الفرد الذي لا يتجاوز 1600 دولار سنوياً، بينما يقفز في الولايات المتحدة إلى 49 ألف دولار، ويجادلون أن الصين ومع قوتها الاقتصادية التي لا يُستهان بها، مازال كثير من مناطقها الجغرافية ومواردها البشرية يحتاج إلى التنمية، وأن الصين أيضاً، لا تسعى بقواها المختلفة والعديدة، إلى فرض نموذج لنظام عالمي معين.
الصين تعلم أن الدراسات والبحوث الاستراتيجية وكثيراً من بيانات المعاهد والمدارس الاقتصادية تحاول نفخها مقارنة مع الولايات المتحدة، ولكن الصينيين أنفسهم يرفضون هذا التضخيم الزائف الذي قد يودي بهم لاحقاً، بل مازال يصر كثيرٌ منهم على اعتبار الصين دولةً نامية، خضعت لسنوات طويلة لتدخلات أجنبية وحكم فاسد وكوارث اقتصادية وسياسية ويشبه أحدهم الأمر كأنه شخص كان مصاباً بمرض السمنة لسنوات طويلة، ويحاول الآن ويبذل جهداً خرافياً ليتحول إلى الوزن الطبيعي المعتدل، لكنها أيضاً مازالت مهتمة بشدة بالتفوق العسكري والقفز إلى المرتبة الثانية أو الأولى عسكرياً، والتي قد تمتد لسنوات طويلة، فحسب معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام فإن الصين تملك ما يقارب 350 سلاحاً نووياً، بينما تملك الولايات المتحدة ما يقرب من 3750 سلاحاً نووياً.
لم تتربع الولايات المتحدة على عرش القطب الواحد للنظام العالمي خلال الثلاثين عاماً الماضية بقوة الدولار فحسب، وليس أيضاً لأنها تحتل القوة العسكرية الأولى عالمياً، وليس كما يذهب الكثير من الباحثين والمحللين إلى تأثير القوة الناعمة الأميركية، التي غزت العالم خلال القرن الماضي، ومازالت هي القوة الأولى النافذة والفاعلة عالمياً في المسلسلات والأفلام والجينز الأميركي ووجبات الماكدونالدز والكنتاكي والبيتزا والكولا وغيرها، بل من وجهة نظري، أن سر الولايات المتحدة الأعظم يكمن في قدرتها العلمية ورصد الميزانيات الضخمة جداً للبحوث العلمية المؤثرة في المجالات الحيوية كالتقنية والطبية والبيولوجية والكيميائية والفيزيائية والفلكية والأحياء، والعلوم الحديثة في الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات وغيرها، وأن الثورة العلمية في الولايات المتحدة، هي التي قادتها ببساطة، خلال أكثر من 100 عام، دون توقف، لتبقى متصدرة دول العالم في المجالات الأخرى كالسياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية.
نحن لا ننفخ في الولايات المتحدة، لكن تلك الحقيقة، التي نشاهدها في مراكز البحث الأميركية، والتي أنتجت معظم المناهج العلمية المعاصرة والحديثة، وليس التقليدية، وتدرس في أعرق جامعات العالم، قد لا تجعل الولايات المتحدة مضطرة لوضع نظام عالمي جديد، يتكيف مع رؤية مؤسسيها، ولكنها أيضاً، متقدمة بخطوات واسعة، في سباق التنافس العالمي، ومهما حاولت الصين أو روسيا أو غيرها، اللحاق بها، ستبقى متقدمة، لأن العمل هناك، لا يتراجع يوماً بعد يوم، بل يشتد ويتزايد، بصورة تستحق الإعجاب، كما تستحق التقليد.
دول كثيرة، نسخت التجربة الأميركية، في مجال البحث العلمي الحديث والمتطور، واستطاعت المضي خطوات واسعة، ومنها الصين والهند وألمانيا واليابان، بل تفوقت الصين في عدد الأبحاث العلمية المنشورة، في العام 2018، ولكن المغزى ليس في عدد الأبحاث العلمية المنشورة، حتى لا ننفخ ثانية، بل في النوعية، وتطويع تلك النوعية المستقبلية، في الأبحاث والدراسات العلمية، لخدمة السياسة والاقتصاد وسيادة العالم.