بقلم: رفيق خوري – إندبندنت عربية
الشرق اليوم – اللعبة على قمة العالم كانت ولا تزال لعبة اثنين على واحد في مثلث القوى. لكن الثنائي لم يكن دائماً هو نفسه. أوروبا المنقسمة بعد الحرب العالمية الثانية إلى معسكر اشتراكي مع الاتحاد السوفياتي ومعسكر ليبرالي مع الولايات المتحدة الأميركية لم تكن القطب الرابع إلى جانب الأقطاب الثلاثة: أميركا والاتحاد السوفياتي والصين.
كانت الصين مرة مع موسكو، ومرة مع واشنطن، ومرة تمارس سياسة يعبر عنها المثل الصيني القائل، “اجلس على التلة وراقب الصراع بين نمرين” والمثل الآخر، “اجلس على ضفة النهر، وهو يجلب لك جثة عدوك”.
كانت أميركا تركز على الصراع مع الاتحاد السوفياتي ضمن استراتيجية “الاحتواء”، وتسعى إلى استمالة الصين. وكان الاتحاد السوفياتي المتخوف من انفتاح ماوتسي تونغ على العلاقات مع أميركا بعد خصامه مع ستالين وخلفائه يحاول استمالة أميركا. ويروي الرئيس ريتشارد نيكسون أن الزعيم ليونيد بريجنيف طلب جلسة خاصة معه من دون الوزير هنري كيسنجر، وقال له، “الصينيون برابرة، ونحن وإياكم أوروبيون ونستطيع الاتفاق وتقاسم العالم”. أما في السنوات الماضية، فإن الصين تقاربت مع روسيا لمواجهة أميركا. لكن هجوم الرئيس فلاديمير بوتين على أوكرانيا أحدث تبدلاً في الحسابات. أي تبدل، وما هو عمقه الاستراتيجي والجيوسياسي؟ سؤال لم يكتمل جوابه بعد.
قبل الحرب، كانت أميركا تركز على الصين وتقلل من شأن العامل الروسي في الصراع. الرئيس باراك أوباما وصف روسيا بأنها مجرد “قوة إقليمية”. الرئيس دونالد ترامب أراد أفضل العلاقات مع بوتين وفتح حرباً تجارية مع الصين. والرئيس جو بايدن رأى، بحسب وثيقة “التوجيه الاستراتيجي المؤقت”، أن الولايات المتحدة “يجب أن تشكل مستقبل النظام الدولي في عالم متغير والوجود العسكري الأقوى لنا سيكون في منطقة المحيطين الهندي والهادئ”. فالتهديد الروسي، في رأيه، ثانوي. وهو حاول الوصول إلى تفاهم مع بوتين بعدما وصفه بأنه “قاتل”. والمواجهة الأساسية مع الصين “الدولة الوحيدة ذات القوة الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية والتكنولوجية التي من شأنها أن تهدد جدباً المنظومة الدولية المستقرة”. وفي المقابل، فإن الرئيس شي جينبينغ الذي يريد أن تتصدر الصين “مركز المسرح الدولي” ذهب نحو تفاهم استراتيجي “لا حدود له” بين بلاده وروسيا. ثم جاءت حرب أوكرانيا.
بوتين كشف من حرب سوريا إلى حرب أوكرانيا، أن روسيا “قوة دولية” تريد كسر الأحادية الأميركية و”هندسة” نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب. الصين لم تدعم روسيا في حربها، لكن لم تنتقد الحرب، ولا لعبت دوراً كان ينتظرها هو التوسط لوقف القتال، ولا توقفت عن رؤية ما يشكله “المحور الأميركي” الجديد من تحديات أمامها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وبايدن اكتشف متأخراً أنه أخطأ في التقليل من قوة روسيا وطموحات بوتين، وبات المسرح الأوروبي يحتل، بقوة الحرب في أوكرانيا، صدارة الاهتمامات الأميركية.
وبكلام آخر، فإن أوروبا التي توحدت ازدادت التصاقاً بأميركا. وخلف حرب أوكرانيا تدور حرب أكبر على جبهة واسعة بين الدب الروسي والنسر الأميركي والتنين الصيني. الدب الروسي قام بمغامرة عسكرية أدخلته في ميدان لا يريد ولا يستطيع الخروج منه، إن لم يربح شيئاً. النسر الأميركي لا يريد مواجهة الدب مباشرة، لكنه بدأ يقدم لأوكرانيا أسلحة نوعية قادرة على إلحاق ضرر كبير بالآلة العسكرية الروسية، ويضيق الخناق الاقتصادي على روسيا بالعقوبات المنوعة على أمل التأثير في قرار بوتين وحتى في موقعه على قمة السلطة. والتنين الصيني يراقب الصراع غير المباشر بين الدب والنسر، وينتظر أن يحمل له النهر أكثر من جثة.
لكن الدب الروسي الذي أوحى أنه صار سريع الحركة بدا بطيئاً ومتعثراً. والنسر الأميركي الذي شاخ يحاول تجديد شبابه. والتنين الصيني يمارس وصية دينغ شياو بنغ، “اعبر النهر وأنت تتلمس الصخور”. ومشكلة اللعبة أنها بين روسي ثابت وصيني ثابت وأميركي متحرك. فلا شيء يتغير في روسيا والصين، وأشياء كثيرة تتغير في أميركا إذا ربح الجمهوريون الانتخابات النصفية في الخريف الحالي ثم الانتخابات الرئاسية عام 2024. والعالم يدفع ثمن طموحات الكبار.