بقلم: علي حمادة – النهار العربي
الشرق اليوم – مر حوالي الشهرين على شن روسيا الحرب على أوكرانيا التي أطلقت عليها القيادة الروسية اسم “عملية خاصة”. ومع ذلك لم يتمكن الجيش الذي وجهه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من تحقيق الأهداف الأساسية التي كانت مرسومة، ولم يعد الأمر سراً بعد تسريب معلومات من قلب الأجهزة الاستخباراتية الروسية إلى الإعلام العالمي بواسطة عملاء للمخابرات الأميركية والبريطانية. مر شهران، حققت فيهما روسيا هدفاً تكتيكياً لا استراتيجياً في منطقة الجنوب المحاذية لبحر آزوف، فضلاً عن إلحاق أضرار كبيرة في البنى التحتية للدولة الأوكرانية، سوف تحتاج إعادة بنائها إلى إنفاق عشرات مليارات الدولارات من المساعدات الغربية. وبالرغم من التفوّق الروسي الحاسم في القدرات العسكرية، فإن أوكرانيا، بدعم من الولايات المتحدة والغرب عموماً، تمكنت من إحباط الهجوم الأول والرئيسي الذي كانت القيادة الروسية تقدر أنه سيوصلها إلى قلب العاصمة كييف، بالتزامن مع إسقاط المدن الكبرى، وفي مقدمها مدينة خاركيف ثاني مدن أوكرانيا.
ما حصل أن القوات الروسية تعثرت، وتلقّت منذ الساعات الأولى من الاختراق الكبير للأراضي الأوكرانية ضربات كبيرة من قوات أوكرانية مارست حرب عصابات ضدها، مستعينة بدعم من المعدات الدفاعية الغربية المناسبة، فضلاً عن الدعم التكنولوجي والاستخباري المكثف، ما مكّن جيش دولة متوسطة مثل أوكرانيا من مواجهة ثاني أكبر الجيوش في العالم، وإلحاق خسائر كبيرة في القوات الزاحفة نحو العاصمة والمدن الكبرى. هذا الواقع تحتل مشاهده الشاشات العالمية في كل مكان. واليوم، فيما تباشر موسكو إطلاق ما تسميه المرحلة الثانية من “العملية الخاصة”، وفيما لا يزال حسم الحرب بالطريقة التقليدية أمراً مشكوكاً فيه للغاية. فكيف لموسكو أن تعلن النصر بعد أقل من ثمانية عشر يوماً في الساحة الحمراء (أي في الثامن من أيار – مايو المقبل، موعد الاحتفال بيوم النصر في الحرب العالمية الثانية) والأهداف الرئيسية لم يتم تحقيقها، ما عدا السيطرة على منطقة الجنوب المشرفة على بحر آزوف، شريطة حسم معركة مدينة ماريوبول، والوصول أقله إلى الحدود الإدارية لمنطقة الدونباس في الشرق التي شكلت عنواناً وذريعة لـ”العملية الخاصة”! في ظل هذا الوضع في مسرح العلميات، لا يمكن للمراقبين إصدار توقعات في ما ستؤول إليه المرحلة الثانية من الحرب التي بدأت رسمياً يوم البارحة.
قبل أيام قليلة من إطلاق موسكو “العملية الخاصة” التي تبين أنها كانت أكبر وأوسع مما زعمت القيادة الروسية في الأصل، كان الرئيس فلاديمير بوتين يحل في الرابع من شهر شباط – فبراير الماضي ضيفاً على نظيره الصيني شي جينبينغ في بكين للمشاركة في افتتاح الألعاب الأولمبية الشتوية. هذا اللقاء حصل في ظل إصرار كل من واشنطن ولندن على أن بوتين قرر أن يغزو أوكرانيا، واعتبر أنه مؤشر على متانة التحالف الروسي – الصيني، وأنه يمثل تأشيرة صينية لروسيا عشية بدء الغزو. ويذكر المراقبون أن هذا اللقاء بين الرجلين كان الثامن والثلاثين في سلسلة لقاءات رسّخت علاقة تحالفية متينة بين الرجلين والنظامين، في سيعهما إلى تقويض المعسكر الغربي معاً. يومها صدر موقف “قوي” في أعقاب اللقاء، تضمّن وصف العلاقة بالتحالف الذي “لا حدود له”. كل ذلك فيما كانت القيادة الروسية تصف تحذيرات الدول الغربية الرئيسية، ولا سيما الولايات المتحدة وبريطانيا، من أن موسكو قررت غزو جارتها الأصغر بـ”الهستيرية”.
بعد عشرين يوماً، أي في الرابع والعشرين من شباط (فبراير)، وتزامناً مع انتهاء الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين، شنّت روسيا الحرب على أوكرانيا. وسارعت الولايات المتحدة، ودول حلف شمال الأطلسي “الناتو”، والاتحاد الأوروبي، وحلفاؤهم في العالم، إلى إطلاق موجات عدة من العقوبات القاسية على روسيا، بالتوازي مع إقرار مساعدات عسكرية لا سابق لها للجيش الأوكراني، الأمر الذي فاجأ القيادة الروسية، ومعها حليفتها الصين. فالعملية التي قدّر لها أن تكون محدودة من الناحية الزمنية، قبل أن يحسم الجيش الروسي، ويدخل كييف، مسقطاً الحكم هناك، لم تسر وفقاً للخطة الرئيسية.
مع تعثر الحرب الروسية، وغرق القوات الروسية في وحول أوكرانيا، تبين أن إعلان النصر لم يكن في متناول اليد، كما تبين أن التحالف الروسي – الصيني وُضع أمام اختبار كبير ودقيق وحساس في ما يتعلق بدعم بكين لموسكو في الحرب. فقد بدت العقوبات الغربية على روسيا أكبر وأوسع مما قُدّر لها. حتى الدول الغربية التي ساهمت فيها ثم انخرطت فيها بدافع من تحول الرأي العام الداخلي في معظمها والتي كانت تتباطأ، وتتهرب من برنامج عقوبات موجع ضد موسكو لم تقدّر حجم العقوبات التي انجرّت إليها.
في جلسة مجلس الأمن الأولى التي عُقدت في السادس والعشرين من شباط (فبراير)، والتي تناولت الحرب الروسية على أوكرانيا، صوّتت غالبية عشر دول لإدانة موسكو، ومارست روسيا، باعتبارها عضواً دائماً حق النقض “الفيتو “، فيما امتنعت أربع دول عن التصويت بينها الصين. يومها كان متوقعاً أن تبادر الصين إلى التصويت مع روسيا، لكنها اكتفت بموقف الامتناع. في الثالث من شهر آذار (مارس)، امتنعت الصين مرة أخرى في الجلسة العامة للجمعية العامة للأمم المتحدة عن التصويت ضد روسيا مع خمس وثلاثين دولة أخرى، فيما أدانت مئة وإحدى وأربعون دولة الغزو. في كلتا الحالتين كان لموقف الصين الممتنع عن اتخاذ موقف من الغزو الروسي رائحة الارتباك في العلاقة التحالفية. فالتحالف “بلا حدود” مع روسيا، كان يفرض عليها أن تؤيدها في المحافل الدولية، على الرغم من أن لبكين مواقف قديمة معلنة في سياستها الخارجية، تقوم على مبدأ رفض انتهاك سيادة الدول عامةً. لاحقاً، كانت المواقف العلنية لوزارة الخارجية الصينية تحاول أن تسبح بين تياري التحالف مع روسيا، والموقف المبدئي المشار إليه، فضلاً عن مصالح بكين الاقتصادية الهائلة مع الغرب. ومع ازدياد علامات التعثر الروسي على الأرض، وصلابة الموقف الغربي النسبية المقابلة، كانت بكين تقف على حبل رفيع: تريد دعم روسيا لكنها تكتفي عموماً بدعم عبر البروباغاندا الإعلامية المؤيدة للرواية الروسية، وتتحاشى الانجرار خلف روسيا.
للموقف الصيني الملتبس أسباب عدة يمكن إيجازها بالآتية:
أولاً: إذا ما وضعنا الأسس الأيديولوجية للتحالف الروسي – الصيني الذي يقوم على محاولة تقويض القوة الأميركية والغرب عموماً، يمكن القول إن حجم التعامل الاقتصادي بين الصين والغرب، مقارنة مع روسيا، يصل إلى أكثر من عشرة أضعاف. 150 مليار دولار مع روسيا في مقابل 1,6 تريليون دولار مع أميركا وأوروبا. من هنا العلاقات الاقتصادية مع الغرب تمثل أولوية. فضلاً عن أن للصين حاجة كبيرة للغرب في عملية نقل التكنولوجيا المتقدمة التي تحتاجها لتطوير صناعاتها المتقدمة. والصين التي يحتقر قادتها النموذج الغربي، تبقى شريكة رئيسية لهذا الغرب، ولا يسعها في المدى المنظور أن تجازف بأزمة كبرى بعيدة منها جغرافياً لمصلحة تحالفها مع روسيا التي تحتاجها أكثر مما تحتاجها الصين.
ثانياً: تحاشت الصين، ولا سيما الشركات الكبرى التي تشرف عليها الدولة، الانخراط في عملية خرق العقوبات على روسيا، مخافة أن تتعرّض لعقوبات ثانوية تهدد شركات رئيسية، وتعقّد العلاقة مع الغرب المستنفر راهناً ضد حرب روسيا.
ثالثاً: على الرغم من حاجة الصين الكبيرة لإمدادت الطاقة، لا تزال هذه الأخيرة مع روسيا متواضعة مقارنة مع الإمدادات إلى أوروبا. والأهم من ذلك أن خطوط الإمداد البرية (الأنابيب) محدودة الطاقة، يصعب تطويرها وتوسيعها قبل مرور سنوات عدة. من هنا صعوبة رفع حجم استيراد الطاقة من روسيا بسرعة دعماً لماليتها. وذلك على الرغم من أن موسكو طبّقت تخفيضات كبيرة على أسعار النفط والغاز الطبيعي لتسهيل تصديرها.
رابعاً: لدى الصين استحقاق سياسي رئيسي متوقع في شهر تشرين الثاني – نوفمبر المقبل، ويتمثل باحتمال التجديد للرئيس شي جي بينغ لولاية ثالثة، تخرق العرف السائد منذ عهد سلفه دينغ جياو بينغ الذي وضع سقف ولايتين حداً أقصى للرئاسة. هذا الاستحقاق مؤداه إن تم بدون عوائق، أن يفتح الباب أمام الرئيس الحالي لكي يؤسس لرئاسة مدى الحياة. هذا الاستحقاق يجب أن يحصل بهدوء، ومن دون أن تشوّش عليه أزمات داخلية أو دولية.
خامساً: تشكل عودة أزمة جائحة الكوفيد إلى الانتشار في الصين تحدياً كبيراً لسياسة الرئيس شي جين بينغ “صفر كوفيد” التي سارت عليها الصين منذ انتشار الجائحة، انطلاقاً من الصين نفسها، وذلك مهما كان ثمن السياسة على حساب رفاهية المواطنين. لكن في الأسابيع الأخيرة، برز تحدي انتشار الجائحة مرة جديدة في مدن كبرى، أهمها شنغهاي كبرى المدن، والمركز الاقتصادي الأول في البلاد، وعدد سكانها أكثر من عشرين مليون نسمة. جرى إقفال المدينة ومعها مدن أخرى أقل حجماً. وأدى استمرار الإقفال لأسابيع عدة حتى الآن، مع تراجع إمدادات الغذاء والدواء الرئيسية، إلى ظهور حالة تململ كبيرة لم تستطع الدولة حجبها، على الرغم من تحكمها بوسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. هذه السياسة التي قررها الرئيس أظهرت حدودها. لكن الرئيس ومعه القيادة لا ينوون التخلي عنها. ولا يمكنهم أن يتقبّلوا فكرة أن توسم بالسياسة التي فشلت. هذا الأمر يقلق سلطات بلد بحجم القارة مثل الصين، لا سيما أن البلد محكوم بقبضة من حديد.
سادساً: لا تمانع الصين في رؤية حليفتها روسيا في ضائقة سياسية، عسكرية واقتصادية نسبية. فهي في النهاية تمثل الطرف الأقوى في التحالف. وتنظر بعين راضية إلى ازدياد حاجة روسيا إليها. وبالتالي تفوّقها عليها في المعادلة التحالفية على كل المستويات. وكلما ازدادت ضائقة روسيا، القوة الكبرى التي لم يعد في استطاعتها تصوير نفسها بالقوة العظمى، كلما سهل التحاقها بالمصالح الكبرى الصينية، ولا سيما في ما يتعلق بالنفوذ في منطقة آسيا الوسطى التي تتقاسم القوتان فيها حدوداً شاسعة.
راهنت موسكو على انتصار سريع ففشلت. استفادت بكين من تعثر موسكو، تحاشت خرق الخطوط الحمر مع الغرب. وهي الآن تنتظر بـ”سينيكية” باردة استغلال تعثر روسيا أكثر لكي تفرض نفسها جزءاً من الحل، ثم ترسخ نفسها الطرف الأقوى في المعادلة التحالفية بينهما.