بقلم: شون أوغرايدي – إندبندنت عربية
الشرق اليوم – بغضّ النظر عمّا سيؤول إليه الحال في أوكرانيا، جاءت الحرب لتؤكد أننا نعيش اليوم في عالم ثلاثي الأقطاب، حيث تشكل الصين وأميركا وروسيا نوعاً من مثلث القوى العالمي. من الواضح أن ميزان القوى هذا ليس أكثر استقراراً من عديد من موازين القوى المختلفة التي سادت في الماضي، بل يبدو فعلياً أكثر عرضة للسماح بتدهور مسار الأمور، والسبب بكل بساطة يعود إلى وجود عدد أكبر من “الأطراف المتحركة” واللاعبين الذين قد يُسيئون قراءة نوايا بعضهم البعض.
لكن مستقبل العالم، كما مصير أوكرانيا، يعتمد على اصطفافات هذه القوى العظمى الثلاث (إضافة إلى الاتحاد الأوروبي باعتباره قوة اقتصادية عظمى)، هذا يعني عملياً مَنْ مِنَ اللاعبين، روسيا أو أميركا، سوف ينجح في استقطاب الصينيين لمؤازرة قضيته وحماية مصالحه.
إذا اختارت الصين روسيا، وأقامت تحالفاً استبدادياً قومياً، يجذب إليه أمثال مودي في الهند، وأردوغان في تركيا، وبولسونارو في البرازيل، فإن آفاق المستقبل ستكون قاتمة حقاً، بالنسبة لأوكرانيا والسلام في العالم. أما إذا تمكن الرئيس بايدن بشكل من الأشكال من إعادة إحياء التعاون المثمر الذي كان يسود سابقاً بين الصين والولايات المتحدة وأوروبا، فإن المسار الذي سيسلكه العالم سيكون بالتأكيد أكثر سعادةً وأقل عنفاً وأكثر ازدهاراً، ولن تمول الصين آلة بوتين الحربية أو تبيعه طائرات من دون طيار. لا يزال هذا الخيار غير محسوم [قائم]، وطالما هو كذلك، سوف تقع المزيد من الحروب.
وإن استخدمنا تعبيراً أصبح مبتذلاً بفعل التكرار، فإن عالمنا تحول إلى عالم أورويلي إن جاز القول، بالمعنى الحرفي للكلمة. في روايته “ألف وتسعمئة وأربعة وثمانون” (1984)، تصور أورويل عالماً مكوناً من ثلاث قوى عظمى – أوسيانيا وإيستاسيا وأوراسيا، وهو أمر يبدو مألوفاً لنا. وكما كتب أورويل عام 1949: “كان من الممكن استشراف انقسام العالم إلى ثلاث دول عظمى، وهذا ما حدث فعلاً، قبل منتصف القرن العشرين”.
وما يثير القلق هو أن [هذه الدول العظمى] كانت في حالة حرب مستمرة لتغيير التحالفات، بالتالي، لم يكن بإمكان الناس الوثوق بالأخبار التي تردهم.
فلنتأمل التاريخ من منظار أوسع. قبل نشوب الحرب العالمية الأولى، كان العالم واقعاً تحت سيطرة الكتلتين الناشئتين في القارة الأوروبية – قوى الوفاق المتمثلة ببريطانيا وفرنسا وروسيا ومقابلها التحالف الثلاثي لألمانيا والنمسا وتركيا. وهو توازن قوى ثنائي القطب، مع أنه لم يوفق في الحفاظ على السلام. في الفترة الفاصلة بين الحربين العالميتين، عادت أميركا إلى الانعزالية فيما اختارت روسيا بناء الاشتراكية في بلد واحد. وانقسمت أوروبا مرة أخرى إلى كتلتين، بين حلفاء ومحور. بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح العالم ثنائي القطب كما هو واضح، لا سيما بعد أزمة السويس، عندما لم تعد الإمبراطورية البريطانية جديرة بأن تكون واحدة من [الدول العظمى] “الثلاثة الكبار” التي انتصرت في الحرب، في ظل القيادة اللافتة وغير المريحة في بعض الأحيان لروزفلت وستالين وتشرشل.
حافظت القوتان النوويتان العظميان في بعض الأحيان على توازن هش للقوة من خلال مبادئ الردع النووي والتدمير المتبادل المؤكد. خاضت القوتان الصراعات الأيديولوجية والصراعات على السلطة بالوكالة، بدءاً من أدغال فيتنام، ووصولاً إلى الأدغال الأنغولية وجبال أفغانستان. أثبتت أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 أنه عندما يظهر أي خطر باندلاع اشتباكات مباشرة بين الروس والأميركيين، يمكن تلافي الحرب عن طريق الخوف من التدمير النووي الحراري المتبادل للحياة على الأرض (ويعتبر إحجام الناتو عن مهاجمة الطيارين الروس فوق أوكرانيا مباشرةً أحد ترددات التفكير نفسه).
انتصرت أميركا في الحرب الباردة، في ما انهار الاتحاد السوفياتي عام 1991 تحت وطأة عجزه عن تلبية التطلعات المادية لسكانه (انتبه يا فلاديمير بوتين)، وأصبح العالم أحادي القطب. كانت الصين مكتظة بالسكان ولديها جيش كبير، لكن هذا كان كل ما تملك. ولم يقرر ماو إعادة إحياء العلاقات الدبلوماسية مع العالم سوى في عام 1972. شكلت الزيارة الشهيرة التي قام بها ريتشارد نيكسون منذ نصف قرن بداية تحول الصين إلى دولة ذات تطلعات خارجية، كما هي اليوم.
وبعد الدبلوماسية جاء دور الاقتصاد. لم تكن الصين، التي عادت للانضمام إلى الاقتصاد العالمي مبدئياً في عام 1978 في عهد دنغ شياو بينغ، مستعدة بعد لفرض وجودها بقوة، بل صبت اهتمامها، بشكل منطقي، على تأسيس قاعدة صناعية تشكل دعماً لطموحات سياستها الخارجية.
في تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان العالم إلى حد كبير ملك أميركا وحدها. ولم يبقَ أمام القادة الأوروبيين الذين غاروا من هذا الوضع أمثال جاك شيراك سوى الانفجار غضباً فيما سعى جورج بوش الابن إلى فرض نظامه العالمي الجديد على أساس أحادي الجانب، وشن الحروب وتغيير الأنظمة كما يشاء. حتى توني بلير، الماهر في إدارة “العلاقة الخاصة” بين البلدين، تبلغ في عام 2003 أن أميركا تنوي غزو العراق إما بموافقة البريطانيين والأمم المتحدة أو رغماً عنهما.
اليوم، تغير ميزان القوى مرة أخرى. أصبح لدينا نظام ثلاثي الأقطاب، لكن أضلاع المثلث، إذا جاز التعبير، غير متساوية بدل أن تكون العكس. إنه مثلث غير منتظم، من جميع الجوانب. تمتلك روسيا ترسانة نووية ضخمة، والتي يفترض أنها تعمل بكفاءة أكثر من جيشها من المجندين سيئ التنظيم وسيئ القيادة وغير المجهز تجهيزاً ملائماً (وهذه لازمة متكررة في تاريخها).
لكن حجم اقتصادها أقرب إلى حجم اقتصاد إيطاليا وميزانية الدفاع الخاصة بها تكاد لا تكون أكبر من ميزانية المملكة المتحدة. روسيا بارعة في مجالات التجسس والفضاء والإنتاج الضخم للبضائع الرديئة وهي تمتلك موارد طبيعية تحسد عليها، لكن هذا كل ما في الأمر. أما أميركا، فنقاط قوتها في مجال الابتكار في التكنولوجيا والحجم الهائل والقدرات الفائقة لقواتها المسلحة غنية عن التعريف، ولكن، كما لفت دونالد ترامب، تضررت القاعدة الصناعية القديمة في أميركا بشدة بسبب العولمة التي احتضنتها ذات يوم بحماسة، وليس أقلها العلاقة الاقتصادية غير المتوازنة مع الصين.
الصين بحاجة لأميركا كسوق ضخمة مزدهرة. وأميركا بحاجة إلى الصين لكي تقرضها المال لشراء المزيد من السلع الصينية. لقد شبهها بعملاقين مخمورين، يدعم كل منهما الآخر فيما يمشيان مترنحين في الشارع، ويتعثر كل منهما أحياناً بالمصالح المالية أو الجيوسياسية للآخر. علاقة الصين مع أوروبا مماثلة، لكنها أكثر توازناً. لدى الصين مبادرة الحزام والطريق التي تديرها الدولة كشكل من أشكال الإمبريالية الاقتصادية العالمية المتأخرة، حيث تشتري النفوذ والسلطة في كل مكان انطلاقاً من سريلانكا واليونان وجامايكا. أميركا لديها “وول ستريت” و”أبل” و”ديزني”. روسيا لديها النفط والفحم والغاز.
بالتالي، لدينا ثلاث قوى عظمى، لكل منها نقاط قوة ونقاط ضعف، ولا واحدة منها قادرة على دفع الآخرين بمفردها. بالمناسبة، لا تظهر أوروبا كثيراً في هذا المشهد، باستثناء الأوساط الاقتصادية والتجارية لأنها، إما للأفضل أو للأسوأ، ما زالت لم تطور “شخصيتها” الواضحة في السياسة الخارجية والأمنية. وقد أضعفها في هذا الصدد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تماماً كما بهتت صورة المملكة المتحدة ونفوذها، من دون دعم الاتحاد الأوروبي لمبادراتها بثقله الاقتصادي. والنتيجة النهائية هي أن ثنائية أوروبا/ بريطانيا قد فوتت فرصتها لتكون القوة العظمى الرابعة.
قد تتغير الأمور بسبب ابتعاد السياسة الألمانية عن النزعة السلمية وميلها إلى إعادة التسلح، لكن في الوقت الحالي ما زال الناتو تحت ظل القيادة الأميركية المستمرة مفوضاً بمتابعة المصالح الأمنية لأوروبا. ومن الجانب الإيجابي، نادراً ما كانت أهمية الناتو أكبر مما هي عليه الآن من جميع النواحي، وقد اختفى كابوس تهديد الرئيس ترامب بالانسحاب. لذا، في الوقت الحالي، أوروبا راضية بالسير وراء بايدن، إن استثنينا المبادرة الفردية لإيمانويل ماكرون.
في هذه الترويكا الغريبة، وفي ظل تورط أميركا وروسيا بالفعل في حرب اقتصادية ونعرات أوروبا الشرقية، تعتبر الصين إلى حد كبير “الدولة المتأرجحة”. في الوقت الحالي، إذن، يعد التطور الجيوسياسي الأكثر إثارة للقلق هو التقارب بين روسيا والصين، مع أن رداءة أداء روسيا في حربها المشؤومة قد أضعفه وعطله جزئياً.
خلال اجتماع قمة عقد في فبراير (شباط) في بكين بين شي جينبينغ وبوتين، أعلن البيان الصادر عنهما أنه “لا حدود” لعلاقتهما، وهي عبارة كان يجب أن تجعل الدم يجمد في عروق جميع من في الغرب، ثم تعهدا “التصدي بفاعلية للتدخلات الخارجية والتهديدات على الأمن الإقليمي، والحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي الدولي”. وهذه رسالة مبطنة موجهة إلى أميركا لكي تبتعد عن مناطق نفوذ كل من البلدين.
حتى إن بوتين، وفقاً للروايات المتداولة، وافق على تأجيل غزوه لأوكرانيا إلى ما بعد انتهاء دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في الصين. وبالمناسبة، ربما لم يكن هذا التوقيت مواتياً جداً للقوات المسلحة الروسية، إذ مع زوال الطقس شديد البرودة في أوكرانيا، سرعان ما حل الربيع الموحل. لم يكن ذلك مهماً في سيناريو النصر الخاطف الذي افترض بوتين أنه سيحققه. إنما مع تعثر حملته، أصبحت قواته متورطة في المستنقع وهذا ما منح أفضلية للأوكرانيين.
ثمة الكثير من القواسم المشتركة بين شي وبوتين، أقله سطحياً. فكلاهما يرفض الديمقراطية (بكياسة ووضوح إلى درجة ما) باعتبارها نظاماً ضعيفاً وغير عملي للتعامل مع التحديات المتسارعة في القرن الحادي والعشرين. (استخدم الفاشيون والنازيون الحجة نفسها منذ قرن أو أكثر، عندما اعتقدوا أن الديمقراطيات الآخذة بالأفول [المتقادمة] قد عفا عليها الزمن ولن تنجو من قسوة القرن العشرين الحديثة).
كل من بوتين وشي قومي تحركه النزعات الانتقامية. تماماً كما يرغب بوتين في إعادة بناء الامتداد الجغرافي لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية وروسيا القيصرية، كذلك ترغب الصين في ترسيخ وتشكيل ماكاو وهونغ كونغ ومقاطعة شيانغجيانغ المسلمة والتيبت وتايوان على صورة بكين.
كلاهما يرفضان حقوق الإنسان والقيم الغربية التقدمية “المتيقظة” [ضد التمييز العرقي والجنسي] (يشعر بوتين برعب خاص من “الانسيابية بين الجنسين”). وهما يقودان دولاً مع نزعة (مفهومة) من جنون الارتياب وشعور الدونية بسبب التدخلات الغربية السابقة في شؤونهما، ولا سيما الاحتلال غير الإنساني على يد كل من ألمانيا النازية والإمبراطورية اليابانية والعداوة خلال الحرب الباردة من الولايات المتحدة، لكنهما تقاربا كثيراً بمجرد أن وجدت الصين، بعد فترة طويلة من توجهها نحو الولايات المتحدة وتصرفها الودي تجاهها، أن أميركا قد انقلبت عليها، وقلبت سياستها المتساهلة معها رأساً على عقب.
لقد حولهما ترامب، على نحو غير ناجز أو مكتمل، إلى أعداء (على الرغم من كل ما فعله الروس للمساعدة في انتخابه) وقضى على عقود من النوايا الحسنة التي بناها القادة الأميركيون والصينيون المتعاقبون. لقد أهان الصين وقادتها، وحملهم مسؤولية فيروس كورونا – “فيروس الصين” – وأشعل حرباً تجارية، واستغل بخبث الانتهاكات الحقيقية لحقوق الإنسان في هونغ كونغ وبحق مسلمي الإيغور، ورفض قبول الحقيقة الأساسية بأن الصينيين يتفوقون على أميركا في صناعة الأشياء، تماماً كما اليابانيين من قبلهم.
ومثلما فعل الديكتاتوريون من طراز كيم جونغ أون أو روبرت موغابي، اللذان رميا أمام شعوبهما مسؤولية العجز عن تأمين الطعام لهم على الأجانب الأشرار، كذلك استخدم ترامب الصين والعولمة كبش فداء علق عليه إخفاقات أميركا نفسها. بعد أن شجع الأميركيون الصين على اعتناق الرأسمالية والعولمة، والانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وجعل اليوان قابلاً للتحويل والتداول، بدأوا بمهاجمتهم لأنهم ناجحون للغاية. وبعد أن نبذتها أميركا، بحثت الصين في الخارج عن أصدقاء، وكانت روسيا هي الشريك الواضح.
لم يكن يجب أن يحدث ذلك أساساً. يجب أن تكون الصين وروسيا عدوتين، وهو ما كان الحال عليه معظم فترة العقود الستة الماضية. أحد الألغاز العظيمة والمباركة في الحرب الباردة هو سبب عدم توافق الصين الشيوعية والاتحاد السوفياتي الشيوعي بشكل عام، على الرغم من الصلات الأيديولوجية بينهما. فلو اجتمعا، حتى في عصر الهيمنة التكنولوجية والصناعية الأميركية، ربما كان البلدان لينسقا عملهما ويحدثا أثراً أكبر بكثير، إذ كانا في النهاية دولاً شيوعية، لكنهما لم يفعلا ذلك، بسبب تنافسهما القديم، والمستمر إلى درجة معينة، على السلطة. وبسبب ذلك اختلقا سبباً أيديولوجياً زائفاً إلى حد ما للشقاق بينهما – أي الانقسام الصيني السوفياتي. في الظاهر، بدا أن الأمر يتعلق بمن يحق له المضي قدماً بالثورة الشيوعية العالمية، ومن هو أفضل ممثل لتقاليد ماركس وإنغلز ولينين… هل هو ماو أم الكرملين؟
بعد الثورة الصينية في عام 1949، التي رعاها الاتحاد السوفياتي، أصبح الثنائي توأم روح، وقبل ماو ستالين كشريك رئيس، نظراً لأن الصين كانت تتعافى من الحرب الأهلية وأهوال الحكم الياباني. كان الاتحاد السوفياتي قوة نووية، ووصياً على الماركسية اللينينية، وكان ستالين الملقب بكوبا Koba هو الوريث المرشح شخصياً لحمل إرث فلاديمير إيلييتش لينين (أو هكذا تقول الرواية). لم يدم ذلك طويلاً، لسببين. من الجانب الروسي، بدأ خليفة ستالين، نيكيتا خروتشوف (الأوكراني بالمناسبة) في البداية بعملية مبدئية سرية لإزالة الآثار الستالينية، ودان معسكرات ستالين وعمليات التطهير و”عبادة الشخصية”.
بحلول عام 1961، أصبحت القطيعة مع الماضي مسألة علنية، ولم توافق عليها الصين. من الناحية الرسمية، ظلوا موالين لستالين، بالتالي اعتبروا أنفسهم الشيوعيين الشرعيين، فيما رأوا أن الكروتشوفيين محرفون للتاريخ ومنحرفون. لقد تنافسوا على توجيه الأحزاب الشيوعية وحركات حرب العصابات في جميع أنحاء العالم، على الرغم من أن ألبانيا وحدها تطوعت في البداية للتحالف مع الصين (فيما أبدت رومانيا أيضاً بعض الود تجاهها).
في الواقع، ارتبط انهيار التحالف الشيوعي الصيني السوفياتي العظيم بتضخم أنا ماو، وبموقف الروس المتعالي، وعند نقطة الانهيار، وبرفض روسيا إيلاء الصينيين ثقتها الكاملة وائتمانهم على التكنولوجيا والأسرار النووية، هذا هو الانقسام الصيني السوفياتي الذي حدث في عام 1961، وخلف عواقب بعيدة المدى ومفيدة للغرب.
بعد الانقسام، انخرط الصينيون في حربهم الباردة الموازية مع روسيا مثلما كان يفعل الأميركيون. وتدهورت العلاقات الصينية السوفياتية لدرجة أنه بحلول عام 1969 وصل الاثنان إلى حد إطلاق النار على بعضهما البعض بسبب نزاع حدودي غامض، وأوشكت الحرب أن تندلع بينهما، الأمر الذي أثار قلق أميركا الشديد. وكانت النتيجة غير المباشرة لهذا الوضع دبلوماسية الظل التي انتهجها هنري كيسنجر وريتشارد نيكسون، والرحلة التاريخية التي قام بها إلى الصين في عام 1972 (في الوقت الذي كانت فيه أميركا لا تزال ترفض الاعتراف بـ”الصين الحمراء” وكرمت رسمياً النظام القومي الانفصالي في تايوان البحرية باعتباره الحكومة الشرعية للأمة بأسرها).
أدرك نيكسون أنه لن يكون من الصعب للغاية التقرب من الصينيين واستغلال عداوتهم لروسيا، وتصرف على هذا الأساس. وهذا ما جاء في مذكرة رسمية بشأن زيارة عام 1972 ومحادثة مع رئيس الوزراء الصيني تشو إن لاي:
“خلال المحادثات مع تشو (زو)، قدم نيكسون أيضاً ما يرقى إلى مستوى ضمان الأمن الصيني، إذ أشار إلى أنه كان على استعداد خلال أزمة جنوب آسيا لتحذير الاتحاد السوفياتي من شن هجوم على الصين. وذهب نيكسون إلى أبعد من ذلك، بإعلانه أن “الولايات المتحدة ستعارض أي محاولة من جانب الاتحاد السوفياتي لشن عمل عدواني ضد الصين”.
لقد التزم كل رئيس، من نيكسون إلى أوباما، ببناء شراكة أوثق مع الصين، وباستغلال تنافسها مع روسيا لصالح الولايات المتحدة بنجاح. كانت القوة العظمى الناشئة للصين في المعسكر الأميركي.
لكن السنوات الأخيرة من العداء الأميركي، الذي عززه ترامب، وبالكاد خفف جو بايدن من حدته، أضر بالعلاقات الصينية – الأميركية، وإن لم يكن ذلك بشكل لا يمكن إصلاحه.
رسمياً، تحولت الصين من شريك إلى تهديد للولايات المتحدة، وقد انعكس هذا الموقف في المملكة المتحدة وأماكن أخرى، حيث ساد القلق من سيطرة الصين على البنية التحتية الرئيسة، مثل اتصالات الجيل الخامس 5G والطاقة النووية. سواء أكان هذا الموقف مبرراً أم لا، فقد خلق تهديداً أكثر خطورة جاء على شكل تحالف صيني – روسي ناشئ، بينما لم يكن من المعقول، منذ وقت قريب، أن تزود بكين روسيا بمعدات ذات تقنية عالية مثل الطائرات من دون طيار، ناهيك بدعم الروبل، ربما يكون هذا بالضبط هو ما يقوض السلام العالمي ويشجع بوتين على المضي قدماً بمخططاته.
بعد أن بدأت الصين وروسيا بتطبيع العلاقات بينهما في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أصبحت العلاقات بينهما في يومنا هذا أقرب من أي وقت مضى منذ خمسينيات القرن الماضي. كانت معاهدة حسن الجوار والتعاون الودي لعام 2001 بين روسيا والصين فاترة ومهمة للغاية في آنٍ واحد – وهي أول معاهدة متساوية بين الثنائي في التاريخ. كان الغرب يتعرض للخيانة.
فقدت أميركا في عهد ترامب صداقتها مع الصين، لكنها فشلت في الوقت ذاته في موازنة الخسارة من خلال إرساء تقارب مع روسيا. على الرغم من التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية وفوز ترامب، كما إعجاب ترامب الصريح ببوتين، الذي أوصله في إحدى المرات إلى ذم الاستخبارات الأميركية علناً لكسب رضا المستبد الروسي، لم ينجح ترامب أبداً في إقامة شراكة مع روسيا.
دعونا لا ننسى أيضاً أن ترامب قد عرقل حزمة مساعدات عسكرية لأوكرانيا بينما كان يطالب بإجراء تحقيق علني بشأن هنتر نجل بايدن. كما أن ابتزاز زيلينسكي بهدف تخويف الديمقراطيين أظهر مدى استعداد ترامب للتضحية بأوكرانيا (ومساعدة روسيا) من أجل غاياته الخاصة. كان من المتوقع أن يحذر جو بايدن أكثر من روسيا – وجاء غزو أوكرانيا في النهاية ليجمد العلاقات الروسية – الأميركية.
بصراحة، ومن دون تنميق، لا يمكن لأميركا حتى مع أوروبا واليابان وحلفاء آخرين إلى جانبها، كبح جماح قوتين عظميين أخريين في الوقت نفسه. لم تعد قوية بما يكفي مقارنة بالآخرين لكي تقاتل على جبهتين، إذا جاز التعبير. فهكذا يصبح العالم الحر مكشوفاً. ربما في يوم من الأيام، قد تعيد أوروبا الموحدة التي تخصص فيها ألمانيا للدفاع موازنة متوازية، ومتناسبة، مثل أميركا، التوازن إلى العالم مرة أخرى على شكل رباعي الأقطاب، لكن هذا سيستغرق بعض الوقت. في الوقت الحالي، تحمل أميركا عبئاً ثقيلاً، وقد سئم ناخبوها، على الرغم من غضبهم من بوتين، من التورط في التعقيدات الأجنبية. بعد أفغانستان والعراق، هل سيقاتلون روسيا على مصير رومانيا أو إستونيا؟ على المرء أن يتساءل [هذا سؤال مشروع].
ومع ذلك، هناك حدود للتحالف الصيني الروسي الجديد، على الرغم مما أعلنه الطرفان – وأسباب تدعو إلى التفاؤل. كما أي قومي روسي فخور، لا يرغب بوتين في أن يصبح معتمداً اقتصادياً وتكنولوجياً وعسكرياً على الصين – وهذا انقلاب تام لدور المعلم والتلميذ الذي لعبته الدولتان في خمسينيات القرن الماضي. من الواضح أنه يمكن لروسيا تزويد الصين بالهيدروكربونات [الوقود الأحفوري] والمواد النادرة الخام – لكنها سوق أقل أهمية بكثير من أميركا أو أوروبا. لم ترحب الصين بحرب بوتين في أوكرانيا، وظلت بعيدة في الأمم المتحدة وامتنعت عن التصويت: فالحرب سيئة للتجارة. على أي حال، حان دور الصين الآن لتقليد دور نيكسون وكيسنجر، وتأليب أميركا وروسيا على بعضهما البعض.
بعد محادثة هاتفية طويلة بين شي وبايدن قبل أيام، كرر بايدن خلالها معارضته لاستقلال تايوان، كان “البيان” الصيني عن المحادثة واثقاً وحازماً بشكل لافت، إذ جاء فيه “على الولايات المتحدة والناتو أيضاً إجراء حوار مع روسيا لمعالجة جوهر الأزمة الأوكرانية وتهدئة المخاوف الأمنية لكل من روسيا وأوكرانيا”.
أصبح بإمكان الصين الآن أن تُملي على أميركا تصرفاتها، تماماً كما تستطيع أن تتوسل بقوتها الصناعية وبراعتها التكنولوجية لكي تملي على بوتين تصرفاته. لا شك في أننا نعيش في عالم ثلاثي الأقطاب، ولكنه عالم تبرز فيه قوة عظمى واحدة وتأخذ موقع قوة الدفع [توجه الدفة] في الشؤون العالمية.