بقلم: عبد الاله بلقزيز – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – أكبر المتضرّرين من الحرب، بعد أوكرانيا، هي دول «الاتّحاد الأوروبيّ». وأضرار أوروبا ممّا يجري متفاوتة الدّرجات ومتعدّدة المجالات: أضرار اقتصاديّة، وأمنيّة، وسياسيّة سياديّة. وما من شكٍّ في أنّ أكثر نخبها السّياسيّة الحاكمة يعرف هاتيك الأضرار، ويقدِّر كلفتها العالية على مجتمعات أوروبا ودولها، ولكنّ ضغوط السّياسة وقهريّة التزامات تحالفات أوروبا الدّوليّة تفرض على الأخيرة أن تخوض في سياساتٍ مناوئة لروسيا تدرِك حجم تداعياتها السّلبيّة عليها. وليس في هذا تبرير لسياسات دول «الاتّحاد الأوروبيّ» بمقدار ما هو محاولة لفهم حالة الاضطرار التي تجد سياسات تلك الدّول نفسها فيها اليوم.
ميدان المعارك العسكريّة اليوم هو قلبُ أوروبا. ومعنى ذلك أنّ أمن دولها يتأثّر بما يجري. ليس شرطاً أن تدخل الدّبّابات الرّوسية إلى شرق أوروبا وغربها لكي يُصاب ذلك الأمن في مقتل؛ تكفي الحرب، والعقوبات الاقتصاديّة وارتداداتها، وموجات اللّجوء لملايين الأوكرانيّين على أراضيها لكي تَنال من الأمن الاقتصاديّ والغِذائي والاجتماعي لبلدانها. والمفارقة في الموضوع أنّ دول أوروبا تقدّم مساهمتها في تنمية أسباب استفحال هذه المشكلات الكبيرة التي تضغط على أمنها الداخلي، وتُحمِّلها الكثيرَ من تداعيات ما يجري في أوكرانيا.
من النّافل القول إنّ سلاح العقوبات الاقتصاديّة سلاحٌ ذو حدّين. وهكذا لن يكون لانخراط دول «الاتّحاد الأوروبي» في سياسات العقوبات على روسيا أثرٌ أحاديّ يقع على روسيا، حصراً، وإنّما سيستجرّ نتائجَ سيئة على أوروبا لا حصر لها. تدرك هذا ألمانيا، مثلاً، وهنغاريا فلا تُجاريان غيرها كثيراً، فيما تندفع دولٌ أخرى، بحماسة شديدة، وراء سياسة العقوبات غير مبالية – ربّما – بما سيرتدّ منها من نتائجَ على احتياجات بلدانها إلى الطّاقة والغِذاء، وما سينجم من ذلك من أزمات اجتماعيّةٍ ونزيفٍ مالي وفاحشِ غلاء. ولقد شرعت هذه التداعيات الاقتصاديّة السيئة في الإفصاح عن نفسها في أوروبا منذ الأسبوع الثاني من بدء تطبيق العقوبات على روسيا، وهي – قطعاً- ستزيد مع الزمن. أمّا إن أوقفت روسيا ضخّ الغاز إلى أوروبا، مثلاً، فسيكون ذلك كارثة، بجميع المقاييس، على اقتصادات أوروبا.
لن يصيب الاقتصادَ الأمريكيّ ضررٌ كبير إذا ما استمرّت الأزمة واستمرّت معها سياسة العقوبات المفروضة على روسيا – كما تُصاب بذلك اقتصادات بلدان أوروبا-؛ ليس لأن الاقتصاد الأمريكيّ قويّ وقادر على استيعاب الأزمات أكثر من نظائره الأوروبية فحسب، بل لأنه ليس مرتبطاً بالاقتصاد الروسي وموارده ارتباطَ اقتصادات أوروبا به. صحيح أنّه أصيب بدوره بارتفاعات مَهُولة في أسعار الطاقة، نتيجة مشكلات النقص في إمداداتها، وأنّ هذه الارتفاعات انعكست على الأسعار وعلى الطّاقة الشّرائيّة للمواطنين بالتَّبعة، غير أن الولايات المتحدة – مثل بريطانيا إلى حدّ ما – لا تعاني نقصاً في موارد الطاقة مثل بلدان أوروبا، ولذلك تستطيع أن تستوعب الكثير من تداعيات هذه الأزمة.
ومن البيّن أنّ المواجهة في أوكرانيا مواجهةٌ بين روسيا والولايات المتّحدة في المقام الأول، وأنّ الأخيرة تخوضُها – في قلب أوروبا – حتى آخر أوكراني دافعةً بأوروبا إلى واجهةٍ أمامية في الصّراع، من طريق حمْلها على السير في نهج سياسة العقوبات، وتقديم العون العسكري إلى أوكرانيا. وعلى عادة واشنطن في تجنيد دول أوروبا في سياساتها الدّوليّة، خاصةً المتعلّقة بالأمن، تجد في الرّابطة الأطلسيّة المشتركة نقطة ارتكاز في شدّ دول أوروبا إلى سياساتها. وعلى ذلك، فهي توحي بأنّ تحجيم روسيا مشروع يصبّ في مصلحة حماية دول خلف «الناتو» وتعزيز أمنه، فيما المسألة برمّتها مسألة أمنٍ أوروبي في المقام الأول، والأمن هذا يُبْحث فيه بين الأوروبيين ابتداءً؛ وروسيا جزءٌ من المجال الأوروبيّ. ولكنّ هذا البحث ممنوع على أوروبا السيرُ فيه خارج الإطار الأطلسي، لذلك لم تنجح «منظّمة الأمن والتّعاون في أوروبا» في أن تستوعب أزمةً أمنية مثل هذه، ولا أتيحت لها فرصة لذلك.
لن يصيب الأمنَ القومي الأمريكي شيءٌ إن تعرّض الأمن في أوروبا لحالة ما من عدم الاستقرار – وهو يعرف، اليوم، شيئاً من عدم الاستقرار هذا – وإنما الأمنُ الأوروبيّ وحده الذي سيُصاب (الأمن الأوروبيّ والرّوسيّ معاً). ولا يمكن ردُّ خطر ذلك إلا بتفاهم روسي- أوروبي لحماية أمن القارة من الأخطار. وهذا ممنوع على دول أوروبا المحكومة بالانتظام تحت المظلّة الأطلسيّة، كما هو ممنوعٌ عليها، أمريكياً، تأليف جيشٍ أوروبيّ موحَّد بقيادةٍ أوروبيّة مركزية، لأنّ في ذلك تفكيكاً لمنظومة الأطلسيّ.
هكذا يظلّ القرار السّياسيّ والأمنيّ الأوروبيّ مصادراً، ويظلّ على أوروبا أن تعيش في كنف وصاية عسكرية أمريكية عليها – تُسمّى أطلسية – على نحوٍ ينال من سيادتها الكاملة… حتى بعد نهاية الحرب الباردة وما سُمِّي بالخطر الشّيوعيّ. وها هي أوروبا اليوم في مواجهة روسيا حتى وإنْ لم تكن لها مصلحة في ذلك!