بقلم: أحمد نظيف – النهار العربي
الشرق اليوم – كل المؤشرات والاستطلاعات كانت تؤكد أن الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية الفرنسية تتجه إلى مواجهة بين الرئيس المنتهية ولايته إيمانويل ماكرون وزعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن. وكل عمليات سبر الآراء ونوايا التصويت كانت تؤكد أيضاً أن أحداً من مرشحي اليسار الخمسة لن يبلغ الدور الثاني، ولكن لا أحد من هؤلاء تنازل عن حلمه في أن يصبح رئيساً مع أنه يدرك على نحو يقيني أن هذا الحلم مستحيل. كان جان لوك ميلانشون الأكثر حظوظاً من بين الجميع، وقد فشلت كل محاولات القواعد اليسارية ونداءاتها للبقية بالانسحاب لمصلحته.
في اليوم التالي للجولة الأولى، أشارت النتائج النهائية بالفعل إلى أن ميلانشون اقترب من الوصول إلى الجولة الثانية بحصوله على 22.2 في المئة من الأصوات، ليس بعيداً من 23 في المئة لمارين لوبن، بينما حصلت آن هيدالغو مرشحة الحزب الاشتراكي على 1.74 في المائة فقط من الأصوات، فيما ذهبت أغلب أصوات الشباب اليساري لميلانشون.
لو صعد ميلانشون مرشحاً يسارياً وحيداً إلى السباق كان سيحصل حسابياً على نسبة أعلى من الرئيس ماكرون نفسه وكانت المنافسة بينهما ستأخذ شكلاً مغايراً، لجهة البرنامج والخطاب وإعادة تشكيل القواعد الانتخابية على نحو مختلف. إلا أن “الزعامتية” التي ابتلي بها اليسار الفرنسي، وغيره من اليسارات في العالم، لا سيما عالمنا العربي، وقفت حاجزاً أمام تحقيق هذه الخطوة التاريخية. فغرور الزعامة – كما سمته الوزيرة الاشتراكية السابقة سيغولين رويال – تحول إلى هدف في حد ذاته، ذلك أنك عندما تكون مرشحاً لانتخابات رئاسية لتيار سياسي، فأنت في خدمة هذا التاريخ، وليس التاريخ في خدمة غرورك الصغير. ورغم هذه الهزيمة القاسية لليسار إلا أن جناحه الجذري ممثلاً بميلانشون أخذ مكانه ضمن مشهد سياسي جديد تشكل على مدى الخمس سنوات الماضية وازداد وضوحاً خلال هذا السباق الانتخابي من خلال نتائج الاقتراع.
وفي الجانب الآخر من المشهد، يواصل اليمين المتطرف الحفاظ على تماسك قاعدته الانتخابية. للمرة الثالثة في تاريخ الجمهورية الخامسة، يتواجد اليمين المتطرف في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية. لكن حضوره اليوم مختلف تماماً في سياقاته وظروفه عن عامي 2017 و2002. قبل عشرين عاماً عندما وصل جان- ماري لوبن والد مارين إلى الدور الثاني في مواجهة الرئيس جاك شيراك، أحدث ذلك صدمة في المجتمع الفرنسي ودخلت قوى الوسط في حالة تعبئة ضده وخرج مئات الآلاف من الناس في مسيرات في الشوارع. وفي عام 2017، لم يكن وصول مارين لوبن مفاجأة.
كان رد الفعل حينذاك أقل إجماعاً وأقل صراحة من جانب البعض. لكن وجود مرشح جديد – هو إيمانويل ماكرون – لم يسبق له أن حكم حاملاً لمشروع جديد مختلف تمام عن المشاريع السائدة ومن خارج الحزبيين التاريخيين، جعل قطاعاً واسعاً من قوى اليسار واليمين يتوحد خلفه لينجح في هزيمة لوبن وينقذ الموقف.
أما اليوم، فالنتائج أعادت إنتاج الوضعية نفسها كما كانت قبل خمس سنوات، لكن في سياق مختلف. من ناحية هناك رئيس منتهية ولايته بعد خمس سنوات من الحكم خيّب ظن قطاع واسع من جمهور اليسار وقواعد الحزب الإشتراكي التي صوتت له في عام 2017، وخلال عهده عاشت البلاد أزمات متتالية من انتفاضة “السترات الصفراء” إلى الأزمة الصحية وصولاً إلى الحرب الأوكرانية وجميعها خلفت أضراراً اقتصادية واجتماعية طاولت بشكل أساسي الطبقات الوسطى والفقيرة. ومن ناحية أخرى، تعرضت مارين لوبن للطعن على يمينها من مرشح له أطروحات متطرفة مثل أطروحاتها أو أشد تطرفاً هو إيريك زيمور، لكنها كانت قادرة على التعامل مع الصراخ بصوت عالٍ، ما جعلها تبدو أقل تطرفاً كما أنها تقدم وعوداً شعبوية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي تلقى صدى لدى الطبقات الشعبية وفي الأرياف.
وبنظرة أكثر اتساعاً، يمكننا أن نرى في النتائج إعادة تشكيل غير مسبوقة تماماً للحياة السياسية الفرنسية، مع تراجع كبير للأحزاب التاريخية مثل الحزب الاشتراكي والجمهوريين. ومن الواضح أن نسق الاقتراع قد توجه نحو التصويت المفيد. تُترجم هذه الظاهرة إلى ثلاث ديناميكيات مختلفة: التصويت الليبرالي المفيد، الذي جسده إيمانويل ماكرون، وصوت اليمين المتطرف مع مارين لوبن، وصوت اليسار، مع جان لوك ميلانشون.
لم يحقق هذان الحزبان مثل هذه الأرقام المنخفضة من قبل. حيث حصلت مرشحة حزب الجمهوريين على 4.8 في المائة من الأصوات المدلى بها. وفي الوقت نفسه، فإن مرشحة الحزب الاشتراكي آن هيدالغو مُنيت بهزيمة تاريخية، فلم يتجاوزا حتى عتبة الخمسة في المئة التي تمكنهما من التمويل العمومي للحملة الانتخابية ما سيجعلهما في أزمة مالية صعبة. وقد التقط إيمانويل ماكرون، هذا التحول مشيراً بالقول: “ألاحظ أن التشكيلين الرئيسيين للجبهة الجمهورية انهارا، وهذا ليس من مسؤوليتي، إنه اختيار الناخبين”، مع أنه يتحمل بطريقة غير مباشرة جزءاً كبيراً من مسؤولية هذا الانهيار، ذلك أن الماكرونية قد سحبت الخزان الانتخابي ليمين الوسط ويسار الوسط على نحو واسع منذ العام 2017، فيما ذهبت أقلية صغيرة من قواعد الحزبين الاشتراكي والجمهوري نحو تشكيلات أقصى اليمين وأقصى اليسار، تحت تأثير الأزمة الإقتصادية وقضايا الهجرة والإسلام.
لكن، يمكننا أيضاً قراءة ما حدث باعتباره استمراراً لحالة تحول ترسخت منذ 2017 قوامها: إعادة تشكيل الحياة السياسية في ثلاث كتل، واحدة على اليمين وواحدة على اليسار وواحدة في أقصى اليمين. لذلك يمكن القول إن هذه الانتخابات – وأياً ستكون نتائجها النهائية – نقلت فرنسا من هيمنة نظام يضم حزبين رئيسيين من حكومات يسار الوسط ويمين الوسط التي تناوبت على السلطة على خمسة عقود إلى نظام جديد تسيطر عليه ثلاث كتل مركزها الماكرونية وطرفاها أقصى اليمين وأقصى اليسار.