بقلم: الهاشمي نويرة – صحيفة “البيان”
الشرق اليوم – أسبوع واحد يفصلنا عن الدورة الثانية لانتخابات الرئاسة في فرنسا، التي سيُحسم أمرها الأحد المقبل.
أسبوع مرّ عن الدورة الأولى، ولا حديث في فرنسا إلا عن مصير ومآل الأصوات التي حصل عليها باقي المرشّحين الذين لم يسعفهم الصندوق، ليكونوا في نهائي الاستحقاق الرئاسي، الذي سيجمع الرئيس المنتهية ولايته، إيمانويل ماكرون، الحاصل على 27.8 في المئة من الأصوات، بمرشّحة حزب اليمين المتطرّف، مارين لوبان، التي جمعت فقط 23.1 في المئة.
وقد يكون من المهمّ ذكر أنّ مرشّح أقصى اليسار، جون لوك ميلونشون، حلّ في المرتبة الثالثة، بقرابة 22 في المئة من الأصوات، وهو ما قد يجعل منه حَكَماً بين طرفي نهائي الاستحقاق الرئاسي الأحد المقبل، وميلونشون، وإن كان دعا أنصاره وناخبيه إلى عدم التصويت لفائدة مرشّحة اليمين، مارين لوبان، فإنّه لم يقم بالدعوة صراحة إلى التصويت لفائدة إيمانويل ماكرون، وهو ما يرجّح بأنّ كتلة ناخبي جون لوك ميلونشون، ستمتنع في أغلبيتها عن التصويت لفائدة أيّ طرف الأحد المقبل.
ولعلّ أهمّ مستجدّات نتائج الدورة الأولى لهذا الاستحقاق الانتخابي الرئاسي الفرنسي، هو الاندثار شبه الكامل للأحزاب التقليدية، والتي تُسمّى أحزاب الحكومة، ومنها الحزب الجمهوري، والحزب الاشتراكي، وهي من الأحزاب التي تداولت على حكم فرنسا طوال فترة الجمهورية الخامسة، حيث حصلت فاليري بيكراس، ممثّلة اليمين الجمهوري، على أقلّ من 5 في المئة، في حين حصدت ممثلة الحزب الاشتراكي، على قرابة 2 في المئة من أصوات الناخبين، لينحصر الصراع على الرئاسة بين الرئيس المنتهية ولايته، إيمانويل ماكرون – وهو الذي برز منذ الدورة الرئاسية الماضية، على أنقاض الصرّاع التقليدي بين اليمين واليسار – ومارين لوبان، صاحبة إرث اليمين المتطرّف، والرافضة للمنظومة التقليدية أصلاً، وأمّا عن حَكَمِ الدورة الثانية لانتخابات الرئاسة، جون لوك ميلونشون، فهو من خارج المنظومة، ومن المطالبين بتأسيس الجمهورية السادسة.
وثاني مستجدّات الاستحقاق الانتخابي الرئاسي الفرنسي، فهو زوال التناقض الأساسي الذي طبع المشهد الحزبي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو التناقض بين اليمين واليسار، ليحلّ محلّله تناقض جديد، بين ما يسمّى بـ «الوطنيين السياديين»، الذي يرتكز أساساً على إرث ومواقف اليمين المتطرّف، والاتّجاه المُعلولم، الذي يقبل بالتنازل الإرادي عن بعض الصلاحيات السيادية، لفائدة منظمات دولية أو تكتّلات سياسية واقتصادية، على غرار الاتحاد الأوروبي، ومنظمّة الأمم المتّحدة، والذي يعبّر عنه في هذه الانتخابات، الرئيس المنتهية ولايته، إيمانويل ماكرون.
ولا يخفى أنّ التوجّه السيادي جمع في هذه الانتخابات، بين التطرّف في علاقة برفض الدولة التخلّي عن أيّ صلاحيات لفائدة الاتحاد الأوروبي أو غيره، والمواقف الداخلية المغالية في معاداة الهجرة والمهاجرين، الذين يحمّلونهم مسؤولية الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتتالية، وهو ما دفع أصحاب هذه التوجّهات، إلى رفع شعار «الرفض المطلق لأيّ شكل من أشكال الهجرة»، وهو ما يرى فيه غالبية الفرنسيين انحرافاً بالنظام القيمي الفرنسي، الذي انبنى على قبول الآخر، وعلى مبدأ التضامن بين الأوطان والشعوب، وعلى حقوق الإنسان، التي تعتبر فرنسا مصدر نشأتها وانتشارها.
وخارج أيّ ترتيب أو تصنيف، يبقى محور القدرة الشرائية للمواطن الفرنسي، والذي حاولت مرشّح اليمين المتطرّف، مارين لوبان، استغلاله و«ابتزازه»، حتّى ببدائل ومقترحات شعبوية وغير قابلة للتطبيق، يبقى هذا المحور محدّداً في النتائج النهائية للانتخابات.
وإلى جانب ذلك، فإن هذا الاستحقاق الانتخابي الرئاسي الفرنسي، سيكون بلا شكّ منطلقاً جديداً لطرح الأسئلة الكبرى بخصوص ثلاث مسائل أساسية كبرى، هي أوّلاً: طبيعة المنظومة التمثيلية الليبرالية، وثانياً: حدود المنظومة السيادية في عالم يربط بينه العاملان الاقتصادي والسياسي، وتفرض عليه الآفات والأزمات، الحدّ الأقصى من التضامن بين الأمم والشعوب، وثالثاً: التحديات المتعلّقة بالجوانب المناخية، التي بدأت تفرض نفسها على أجندات كلّ الحساسيات السياسية، إلّا من آثر التغاضي عن التطورات الكونية البديهية، والتي من الواضح أنّ تداعياتها السلبية ستشمل الجميع.
إنّ موعد الأحد 24 أبريل 2022، لن يحدّد بالتأكيد وفقط، اسم رئيس فرنسا المقبل، ولكّنه سيكون مقدّمة لإعادة النظر في أسس المنظومة الفكرية والسياسية الليبرالية، وما تحمله هذه التغييرات من إعادة تشكيل لمشهد العلاقات الدولية، والخارطة الجيوسياسية التي بدأت ملامحها الجديدة تتشكّل، في خِضَمّ الأزمة الروسية الأوكرانية، وكذلك تداعيات أزمة «كورونا».