بقلم: جمال أبو الحسن – المصري اليوم
الشرق اليوم – هو بعدٌ حاضرٌ في الأزمة من اليوم الأول تقريبا. الرئيس الروسي حرص على استحضاره والإفصاح عنه بقدرٍ لافتٍ من الوضوح عند بدء العملية العسكرية. أشار «بوتين» ساعتها إلى أن تدخل أى دولة في النزاع سوف يُرتب تبعاتٍ «أكثر من أي شيء واجهته عبر التاريخ». على الطرف الآخر، بدا الرئيس الأمريكى حريصاً، ومن قبل اندلاع العملية العسكرية، على التأكيد من دون لبس على أن بلاده لن تنخرط عسكريا في النزاع في أوكرانيا، لأن ذلك من شأنه إشعال الحرب العالمية الثالثة.
البعد النووي فاعل ومؤثر، إذن، على مجريات هذه الأزمة التي تُعد الأخطر منذ انتهاء الحرب الباردة. السلاح النووي هو ما يضع للأزمة إطارها العام، ويضع الحدود الحاسمة التي يسعى كل طرف إلى تجنب تجاوزها. تخطى الحدود من شأنه إدخال العالم في حرب تقترب به من حافة الفناء. ليس فناء هذا الطرف أو ذاك، وإنما فناء الحضارة البشرية على كوكب الأرض. هكذا يُدرك طرفا الأزمة، وعلى هذا الأساس يصنعان قراراتهما للتعامل مع تطوراتها. وسوف يظل هذا البعد، المرعب والمقبض، حاضرا في هذه الأزمة خلال كافة محطاتها.
منذ يومين صرح الرئيس الأوكراني «زيلينسكي» بأن العالم عليه أن يكون مستعدا لاحتمال استخدام الرئيس بوتين السلاح النووي ضد بلاده. وقبل ذلك صرح «وليام بيرنز»، مدير المخابرات المركزية الأمريكية، والذي عمل سفيرا لبلاده لدى موسكو في السابق، بأن أحدا لا يجب أن يستهين باحتمالية لجوء الرئيس بوتين للسلاح النووى جراء إحباطه من تطورات الحرب في أوكرانيا، وإن عاد المسؤول الأمريكي واستدرك قائلا إنه ليس ثمة دليل على أن هذه الاحتمالية تُعد وشيكة.
خطورة السلاح النووي أنه، في النهاية، خاضعٌ لقرار بشري. وفي الحالة الروسية، وبسبب طبيعة النظام، فإن الأمرَ خاضعٌ كليا لقرار شخص واحد هو الرئيس «بوتين». الحرب الأوكرانية، بما تنطوي عليه من مواجهة بين الغرب وروسيا، تخلق ظروفا تُزيد من احتمالية استخدام مثل هذا السلاح. العقيدة العسكرية الروسية تسمح باستخدام السلاح النووي في حالة تعرض الدولة لخطر وجودي. ثمة مساحة، بالطبع، لتفسير نوعية هذا الخطر الوجودي. الأمر يتعلق أيضا، وإلى حد ما على الأقل، بتقدير القائد للخطر، وما إذا كان داهما أو وشكيا. فى هذه المساحة يكمن الخطر المرعب بوقوع الخطأ، أو سوء الفهم، أو سوء التقدير.
يتحدث الخبراء بالتحديد عن فئة من الأسلحة النووية يُحتمل أن تلجأ موسكو لاستخدامها، إن هى شعرت أن «ظهرها للحائط»، يُطلق عليها «الأسلحة التكتيكية». إنها أسلحة يُمكن توجيهها نحو هدف محدد، كقاعدة عسكرية، أو حشد من قوات العدو. يُمكن استخدام هذا السلاح لحسم المعارك العسكرية في الميدان. وبرغم ما يوحى به اسمها- أسلحة تكتيكية- من أن لها قوة تدميرية محدودة، فإن قوتها تُماثل قوة القنبلة التي أُلقيت على هيروشيما (ما يوازى 14 ألف طن من مادة تي إن تي)، ولتقريب الأمر إلى الأذهان فإن انفجار مرفأ بيروت كان يوازي القوة التدميرية لمئات الأطنان فقط من مادة تي إن تي. أي أن الدمار الناشئ عن الأسلحة التكتيكية واسعٌ ومؤكد، ولا يمكن التقليل منه بأى حال. غير أنه لا يقارن بالأسلحة النووية الاستراتيجية التى تتعدى قوتها التدميرية ملايين الأطنان، والتي بإمكانها محو وإحراق مدن كاملة في دقائق.
والحقيقة أن استخدام الأسلحة النووية التكتيكية في الصراع الأوكرانى لا ينطوي على أى منطق بالنسبة للجانب الروسي. فهو، من ناحية، لن يحسم الصراع على أي وجه. ولن يحل المعضلات العسكرية والصعوبات التى تواجهها روسيا حتى اليوم في تحقيق أهدافها من وراء حربها في أوكرانيا. لذلك، وبافتراض عقلانية ورشادة الطرف الروسي، فإن احتمال استخدام هذا السلاح يظل ضعيفا. غير أنه، بالتأكيد، ليس منعدما.
ثمة وقائع محددة اقترب خلالها العالم من استخدام السلاح النووي. من أشهر هذه الوقائع بالطبع ما يُعرف بأزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962. وقف العالم كله، ساعتها، على أطراف أصابعه متابعا حالة من التصعيد المتبادل بين القوتين العظميين في هذا الوقت، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. أما أغرب الوقائع، وأقربها إلى إطلاق حرب نووية، فهي واقعة لم يسمع بها كثيرون، ولا يذكرها أحد اليوم.
في عام 1983 كانت القيادة السوفيتية، تحت «أندروبوف» المسن والمريض، تعاني رهابا دائما من أن الولايات المتحدة على وشك شن هجوم عليها. شعر السوفييت بأنهم بسبيلهم لخسارة الحرب الباردة، خاصة بعدما أعلن «ريجان» عن برنامج حرب النجوم، وظهر أن السوفييت ليس بمقدورهم مجاراة الولايات المتحدة في سباق التسلح. فى أكتوبر من هذا العام قام الناتو بمناورات تدريبية في شرق أوروبا. التدريب كان يتضمن سيناريو، على سبيل المحاكاة، يفترض أن قوات الناتو تعرضت بالفعل لهزيمة على يد قوات حلف وارسو الذي يقوده السوفييت. يفترض السيناريو أن قادة الناتو العسكريين يقومون بطلب الإذن من القيادة المدنية لاستخدام السلاح النووي ضد الاتحاد السوفييتي.
عندما تنصت السوفييت على هذا التدريب، توصلوا إلى قناعة بأنه ليس مناورة، بل هو تجهيز لعملية حقيقية تتضمن استخدام السلاح النووى. السبب وراء قناعتهم تلك أن الاتحاد السوفييتي كان يجهز خططه الخاصة على أساس إخفاء الهجمات الحقيقية تحت ستار المناورات التدريبية. افترض الروس أن الأمريكان يقومون بالأمر نفسه! وهكذا، ذهب المسؤول الذي يحمل الشفرة النووية إلى رئيس الوزراء السوفييتي «أندروبوف» الذي كان قعيد الفراش في مصحة علاجية. وفي ليلة 8 نوفمبر كان «أندروبوف» على وشك أن يضغط الزر، بينما لا أحد في العالم يدرى أن الحضارة البشرية كلها كانت على وشك الفناء في هذه اللحظة بسبب سلسلة من سوء الفهم والتقدير. في صباح اليوم التالي، أدرك السوفييت أن الناتو كان يجري تدريبا بالفعل، وأن مخاوفهم لا أساس لها!
معنى ذلك أن الحرب النووية، وتحت ظروف معينة، تُصبح أكثر احتمالا. ليس هناك ما يمنع أن يقترح مستشار أمني أو سياسي روسي، في لحظة معينة، اللجوء لهذا السلاح. ثمة سوابق أيضا لهذا النوع من التفكير لدى مسؤولين أمريكيين، مثل الجنرال «ماك آرثر» الذي اقترح في الخمسينيات استخدام السلاح النووى ضد الصين بعد تدخلها فى الحرب الكورية.
على الجانب الآخر، فإننا نعرف أن منطق «الردع النووي المتبادل»، أو توازن الرعب، كان فعّالا طوال الحرب الباردة وإلى اليوم. إنه نفس المنطق الذي يجعل الولايات المتحدة تُحجم عن التورط في النزاع بصورة مباشرة، ويحمل موسكو- في الوقت نفسه- على التفكير مرتين قبل مهاجمة مخازن للسلاح والذخيرة في بولندا (عضو الناتو)، حتى وهي تعلم أن السلاح في طريقه إلى الأوكرانيين.
على أن الكثير من الدول عبر العالم تُتابع وقائع الحرب الأوكرانية وتُفكر فى حساباتها النووية أيضا. من الواضح أن هذا السلاح يمنح قدرا من الحصانة السيادية لمن يملكه (روسيا)، ويجعل الطرف الآخر مكشوفا إلى حد بعيد (أوكرانيا). إذا كانت الولايات المتحدة تُحجم عن دخول هذا الصراع مباشرة من اللحظة الأولى، بسبب السلاح النووي الروسي، فهذا سوف يدفع دولة مثل تايوان للتفكير في مصيرها فى حالة التعرض لهجمة صينية، بل سيدفع كوريا الجنوبية واليابان لإعادة التفكير في «الخيار النووي»، وسوف يُزيد من تمسك دولة مثل إيران بمثل هذا الخيار. ومن ناحية أخرى، فإن انتهاء هذه الحرب من دون تحقيق روسيا لأهدافها الاستراتيجية، سوف يحمل دلالة لا تخطئها عين لمحدودية دور السلاح النووي في حسم هذه النوعية من الحروب.
إن البعد النووي للحرب في أوكرانيا بالغ التعقيد، ويحمل نتائج وتبعات تتجاوز روسيا وأوكرانيا، إلى مستقبل الأمن العالمي.