بقلم: غافين مورتيمر
الشرق اليوم- انحصرت المواجهة مجدداً بين إيمانويل ماكرون ومارين لوبان، وتُعتبر هذه النتيجة مُحبِطة جداً بنظر ملايين الفرنسيين، حيث اندلعت احتجاجات عنيفة في مدينة “رين”، في منطقة “بريتاني” الفرنسية، بعد فترة قصيرة على إعلان نتيجة الجولة الأولى من التصويت، فقد عبّر نحو 500 شخص عن غضبهم ضد “الفاشية” و”الرأسمالية”. خلال الفترة نفسها، تلقيتُ اتصالاً من شقيقة زوجتي في جنوب فرنسا، وكانت هذه الاشتراكية من الطبقة العاملة تشعر باليأس لأنها باتت مضطرة مجدداً للاختيار بين ماكرون ولوبان، لكنّ أمثالها سيقررون نتيجة الجولة الثانية من الانتخابات في 24 أبريل، لم يتفوق ماكرون إلا في الفئة العمرية التي تفوق الخامسة والستين، فقد كان المرشّح الأكثر شعبية في هذه الأوساط بفارق واضح، إنه وضع شائب على نحو خطير.
من الواضح أن المتقاعدين، أي الأشخاص الذين يتلقون معاشات تقاعد مريحة بشكل عام ولا يضطرون لتسديد الرهون، يشعرون بالرضا على أداء الرئيس الحالي، وهذه الفئة من الناس كانت قد وافقت أيضاً على تدابير ماكرون المشددة لمكافحة جائحة كورونا، بما في ذلك جواز التلقيح، والأقنعة، وإغلاق المجتمع ككل، إنه الجيل الذي شهد على الاضطرابات المدنية في فرنسا في مايو 1968، فمنذ نصف قرن كان هؤلاء الأفراد راديكاليين وثوريين، لكنهم مولعون بـ”رئيس الأغنياء” ماكرون في هذه المرحلة المتقدمة من عمرهم.
لم تصوّت شريحة واسعة أخرى من كبار السن لصالح ماكرون، لكن تتألف هذه الفئة عموماً من رجال ونساء منتمين إلى الطبقة العاملة، ويسلّط هذا الوضع الضوء على الشرخ الخطير الذي ظهر في فرنسا في آخر خمس سنوات، ويوضح مُنظّم استطلاعات الرأي، جيروم فوركيه، لصحيفة “لو فيغارو”: “المواجهة اليوم هي بين كتلتين اجتماعيتَين وثقافيتَين، تزداد شعبية ماكرون في أعلى مراتب السلم الاجتماعي ووسط المتقاعدين المنتمين إلى اليمين الوسطي… أما مارين لوبان، فيتركز معظم داعميها وسط أصحاب الأجور الأكثر تواضعاً والفئة التي تتابع العمل وتواجه المصاعب، على عكس طبقات المجتمع الثرية والمتقاعدين”.
برأي فوركيه، باتت الفكرة التي تعتبر الانقسام الراهن في فرنسا بين اليسار واليمين بالية لأن الصراع القائم أصبح بين الأثرياء والفقراء، وتُجسّد “حركة السترات الصفراء” هذا الشرخ المستجد، فهي تجمع رجالاً ونساءً كانوا يعتبرون أنفسهم اشتراكيين أو يمينيين منذ عشر سنوات، لكنهم يضعون أنفسهم اليوم في خانة “المنسيين”، واتّضح هذا الشكل من التنافر بين فئات المجتمع خلال الصيف الماضي أيضاً، حين نزل عشرات آلاف الناس إلى الشوارع في أنحاء فرنسا للاحتجاج على جواز “كوفيد”.
أنا شخصياً حضرتُ تظاهرات من تنظيم هاتين الحركتَين الاحتجاجيتَين ولم أسمع في أي لحظة هتافات تدعم مارين لوبان أو جان لوك ميلانشون، ولم يتفوه المحتجون إلا باسم واحد وبأعلى درجات الكراهية، فراحوا يهتفون “استَقِلْ يا ماكرون!” أثناء تجولهم في الشوارع، لكن الرئيس رفض طلبهم وأصبح اليوم المرشّح الأوفر حظاً للفوز بولاية رئاسية ثانية، مع أن استطلاعاً منشوراً في صباح يوم الاثنين الماضي توقّع أن تكون المنافسة مع لوبان محتدمة (كانت الاستطلاعات دقيقة على نحو مبهر خلال الجولة الأولى).
لكن بغض النظر عن هوية الفائز في الجولة الأخيرة، سيضطر الرئيس الجديد لقيادة بلد مفكك ومستاء ومستعد للقتال، ففي السنة الماضية نشر عدد من كبار الضباط العسكريين المتقاعدين رسالة مفتوحة في فرنسا وحذروا فيها من حرب أهلية وشيكة، وهم محقون في التعبير عن قلقهم، لكنهم كانوا مخطئين حين اعتبروا المتطرفين الإسلاميين أعداء الداخل، ويبقى عدد هؤلاء المتطرفين أصغر من أن يطلقوا اضطرابات اجتماعية خطيرة، ويقوم الصراع المتفاقم في فرنسا بين مؤيدي العولمة وفئة “الديغوليين المقاومين” التي سخر منها ماكرون، إنه صراع بين الأثرياء والعمال الكادحين، وقد سبق أن اختبرت فرنسا هذا النوع من الاضطرابات ولم تكن النتيجة إيجابية يوماً.