بقلم: فارس خشان – النهار العربي
الشرق اليوم – باستثناء أرباح صنّاع الأسلحة وتجّارها، سوف تُلحق الحرب الروسية على أوكرانيا خسائر بالجميع، سواء كانوا شعوباً أم دولاً، إلّا أنّ الخاسر الأكبر، كما تُظهر المعطيات المتراكمة، سوف يكون “الآمر الناهي” فلاديمير بوتين، لأنّ هذه الحرب هي نتاج “رؤيته” لنفسه ولقوته ولتكتيكاته ولاستراتيجيته ولتوقيته ولعقيدته ولاستنتاجاته.
قبل هذه الحرب التي أعادت أوروبا إلى زمنها الدموي، كاد بوتين يحظى بإجماع شبه كاسح، على أنّه “سيّد الإستراتيجيين” وأكثرهم “عبقرية”، فهو لم يكتفِ بإعادة روسيا إلى نادي العظماء، بعدما عانت ما عانته في ضوء انهيار الاتحاد السوفياتي، فحسب بل نجح في توسيع نفوذه ليكون لاعباً رئيساً في كل المناطق الساخنة في العالم، أيضاً.
في الواقع، لقد استفاد بوتين الذي يطرب عند سماعه للقب “القيصر”، من تراخي الغرب في عدد من الجبهات، كما هي عليه الحال في سوريا، ومن فشله في جبهات أخرى، كما هي عليه الحال في مالي وأفغانستان، ومن “انتهازيته السياسية والإقتصادية” في التعامل مع عدد من الأزمات الخطرة، كما هي عليه الحال عند ضمّ موسكو شبه جزيرة القرم.
وفي وقت كان أوروبيون كثر يُهلّلون لإطاحة الرئيس الأميركي جو بايدن بالرئيس السابق دونالد ترامب، بدا فلاديمير بوتين قلقاً للغاية، فهو انتقل من عهد أوجد هوّة بين ضفتي الأطلسي إلى عهد عمل، منذ اليوم الأوّل، على جسرها، ومن عهد بدا معه “حلف شمال الأطلسي” في “حالة الموت الدماغي”، كما كان قد وصفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى عهد بذل كلّ ما يلزم من جهود لإعادة هذا “المريض” إلى عافيته، ومن عهد لا تعنيه كثيراً أوكرانيا إلى عهد يعشق “ثورتها الملوّنة” وكلّ ما أنتجته.
إنّ هذا “التحوّل الإستراتيجي” في الولايات المتّحدة الأميركية، دفع بوتين إلى وضع “خطّة التصدّي”، فهو لا يريد اتّحاداً أوروبياً قويّاً ولهذا كان تسلّله، مراراً وتكراراً، من خلال “مرتزقة الإنترنت” و”قوى الضغط” وأحزاب “اليمين المتطرّف”، إلى محاولات التأثير في مجريات الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وهو يرفض السماح بإعادة تعزيز “حلف شمال الأطلسي” الذي يقترب أكثر فأكثر من حدود روسيا، وهو لن يقف مكتوف اليدين أمام مشاهد “العشق” الأميركي – الأوكراني.
وعمل بوتين بموجب “خطّة التصدي” التي وضعها، بانتظار “ساعة الصفر” التي احتكر تحديدها.
وعليه، بعد تعزيز “الشراكة” مع الصين وارتفاع حاجة الاقتصادات الكبرى إلى مصادر الطاقة والمواد الأوّلية، وفي ضوء طريقة الانسحاب الأميركي “المذلّة” من أفغانستان، وفي زمن “برودة” العلاقات الأميركية مع دول أساسية في أكثر من منطقة في العالم، لا سيّما في الشرق الأوسط، حدّد بوتين “ساعة الصفر” لإعلان حربه على أوكرانيا، التي استسهلها إلى درجة أنّه كان قد توهّمها “خاطفة”.
وظهر أنّ المعطيات التي بنى عليها بوتين استراتيجيته كانت خاطئة، فالمخاوف التي أثارها اجتياح أوكرانيا انقلبت عليه، لأنّها أنتجت كلّ ما كان يعمل ضدّه، بحيث سرّعت في تضميد الجراح في جسم “الاتحاد الأوروبي”، وفي مداواة أمراض “حلف شمال الأطلسي”، وجعلت المصلحة العليا في كثير من الدول تتغلّب على “السياسة الانتهازية”، وتمّ ترفيع الشعب والجيش والرئيس في أوكرانيا إلى مراتب البطولة، وجرى إدراج بوتين في قائمة “المنبوذين”، ولاحقت العقوبات “حاشيته” وعائلته، ووُضعت قواته العسكرية وأسلحته وأسطوله البحري في ميزان التقييم.
الأدهى من ذلك، أنّ بوتين الذي برّر حربه على أوكرانيا بحماية الأمن الإستراتيجي الروسي من مخاطر مجاورة “حلف شمال الأطلسي” عزّز ميول أهم دولتين حدوديتين له إلى التخلّي عن حيادهما “المزمن” لمصلحة الإنضواء في هذا الحلف، للاحتماء من مخططات “القيصر” التوسّعية: فنلندا والسويد.
فنلندا تتقاسم وروسيا حدوداً بريّة مساحتها ألف وثلاثمئة كيلومتر، في حين تملك السويد واجهة بحرية على بحر البلطيق الإستراتيجي لروسيا تمتد على مساحة ألف وخمسمئة كيلومتر.
وعلى الرغم من تحذيرات موسكو بنشر أسلحة نووية على الحدود البرية والبحرية بينها وبين هلسنكي واستوكهولم، في حال أقدمتا على ما تنويان عليه، إلّا أنّ استطلاعات الرأي في الدولتين أتت، بنسبة كبيرة، لمصلحة الانضمام السريع إلى “حلف شمال الأطلسي”.
في الواقع، لم يعد بوتين يملك، في مواجهة هذا التصدّي الأوروبي والغربي الذي فاجأته شموليته، سوى الترهيب من إمكان استعمال السلاح النووي.
وهذا الترهيب، وإن كانت له نتائج وتداعيات جيوسياسية، إلّا أنّه لا يخدم الصورة التي يحلم بها بوتين لنفسه، إذ إنّها تنقله من ناصية “الإستراتيجي العبقري” إلى درك زعيم كوريا الشمالية كيم يونغ أون.
في التاسع من أيّار (مايو ) المقبل، وهو ذكرى انتصار الاتحاد السوفياتي على نازية أدولف هتلر، يريد بوتين أن يظهر منتصراً في أوكرانيا، ولذلك سوف يفعّل آليته العسكرية للسيطرة على كامل إقليم دونباس الذي لا يزال يواجه بقوة، ولكنّه حتى لو نجح في ذلك، فإنّ غالبية الدول الأوروبية سوف تنظر إلى “مباهاته” بكثير من السلبية الإستراتيجية، لأنّه لن يكون سوى انتصار الرعب والتدمير والتوسّع، وتالياً سوف يبدو درساً موجعاً لا بدّ من الاستفادة منه للاستعانة بكل الوسائل التي يمكن أن تحمي من “بوتين الرهيب”.
بوتين كان يطمح إلى أن يلوذ إليه الجميع ليحتموا به، ولكنّ طموحه انقلب إلى عكسه تماماً، بحيث لاذ الجميع بعدوّه الإستراتيجي ليحتموا منه.
وهكذا تكون العبقرية قد خانت بوتين الإستراتيجي، وصحّت، في تقييمه السلبي الدائم، أقوال عملاق الشطرنج الروسي غاري كاسباروف.