بقلم: علي حمادة – النهار العربي
الشرق اليوم – بعد أقل من عشرة أيام، يتوجه الناخب الفرنسي إلى صناديق الاقتراع للتصويت في الدورة الثانية لواحد من مرشحين لمنصب الرئاسة، أي الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون ورئيسة حزب “التجمع الوطني” مارين لوبن.
وتكتسب هذه الانتخابات أهمية بالغة. أولاً، لكونها انتخابات تتقارب فيها قوة المرشحين، واحتمالات فوز أحدهما يوم الرابع والعشرين من شهر نيسان (أبريل) الحالي شبه متعادلة. ثانياً، لأن الناخب الفرنسي يتوجه إلى صناديق الاقتراع لاختيار رئيس أو رئيسة جديدة، مع احتمال أن يكون للاختيار تداعيات عميقة على شكل الحكم، وأسلوبه، وخياراته، وانعكاساته الداخلية كما الخارجية. وثالثاً، لأن الانتخابات الحالية تشهد صعوداً لا سابق له لشعبية اليمن الراديكالي والمتطرف في مرحلة من أخطر المراحل التي تمر بها فرنسا على المستوى الاجتماعي الاقتصادي، وأيضاً على مستوى تموضعها في ما يتصل بالسياسة الخارجية. كل ذلك وسط انهيار شامل للأحزاب التقليدية التي سيطرت على المشهد السياسي الفرنسي خلال أربعة عقود، منذ انطلاقة الجمهورية الخامسة التي أرساها الرئيس الراحل الجنرال شارك ديغول في الرابع من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1958.
إذاً، هذه انتخابات مفصلية، لأنها قد تنتهي بفوز مرشحة اليمين الراديكالي، والبعض يفضل تسميته اليمين المتطرف (وإن تكن لوبن قد غيّرت في شكل خطابها السياسي لا مضمونه)، نظراً لتاريخ المرشحة مارين لوبن الشخصي والعائلي (والدها جان ماري لوبن، مؤسس “الجبهة الوطنية”، اليميني المتطرف الذي يتحدر منه حزب ابنته الحالي “التجمع الوطني”)، وللطروحات التي دافعت وتدافع عنها، لا سيما في يتعلق بقضايا الهجرة، والتعامل مع الشريحة المسلمة العربية في فرنسا التي يقارب عددها الثمانية ملايين شخص، معظمهم من حاملي الجنسية الفرنسية وأقلية من حائزي حق الإقامة النظامية، فضلاً عن فئة المقيمين غير النظاميين.
في ما يتعلق بالرئيس الحالي المرشح إيمانويل ماكرون، لا تزال استطلاعات الرأي تمنحه بضع نقاط يتقدم فيها على منافسته. لكن الهوامش ضيقة على عكس المرة السابقة سنة 2017. وهوامش الخطأ في الاستطلاعات لا تمنحه نسبة تقدم مريحة. كل هذا يجعل من التنبؤ بالنتيجة يوم الرابع والعشرين من هذا الشهر أمراً صعباً، إن لم يكن مستحيلاً.
لكن ما يهمنا هنا الآن هو ما يتعلق بالسياسة الخارجية لفرنسا التي يمكن أن تنقلب رأساً على عقب في حال فوز مرشحة اليمين الراديكالي مارين لوبن. فسياسة الرئيس الفرنسي الحالي، وهو يمثل في مكان ما الوسط العريض الذي ورث جناحي وسط اليمين التقليدي من جهة، ومن جهة أخرى وسط اليسار التقليدي، حافظ في مكان ما على جوانب عدة من إرث السياسة الخارجية التي أرساها الجنرال ديغول مؤسس الجمهورية الخامسة، ثم تابعها كل على طريقته وبحسب قراءت خلفائه من الديغوليين كالرئيسين جورج بومبيدو وجاك شيراك، أو من وسط اليمين كالرئيس فاليري جيسكار ديستان، أو من اليسار الاشتراكي كالرئيسين فرانسوا ميتران وفرانسوا هولاند، أو من اليمين البراغماتي كالرئيس نيكولا ساركوزي، وأخيراً ممثل الوسط العريض البراغماتي إيمانويل ماكرون. لم تتغير السياسة الخارجية الفرنسية كثيراً من عهد إلى عهد. ظلت الخيارات الديغولية قائمة بشكل أو بآخر، حتى بعدما قرر الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي إعادة فرنسا إلى القيادة العسكرية الموحدة لـ”حلف شمال الأطلسي – الناتو” (كان الجنرال ديغول قد خرج منها سنة 1965)، لم يحصل انقلاب حقيقي، لأن الجنرال ديغول لم يخرج فرنسا من معسكر الغرب، بل ذهب نحو استقلالية دفاعية فرنسية، وخصوصاً في ما يتعلق بالتسلح النووي الفرنسي. أضف إلى ذلك أنه أراد توسيع هوامش استقلالية فرنسية أكبر في فترة الحرب الباردة، ولا سيما لناحية القيادة الأميركية لـ”الناتو”.
اليوم تقف فرنسا في حال فوز مارين لوبن أمام مفترق طرق دقيق جداً. فبرنامج المرشحة اليمينية الراديكالية يدعو صراحةً إلى تحقيق أهداف بالغة الخطورة. أولاً، الانسحاب من القيادة العسكرية الموحدة لـ”حلف شمال الأطلسي”. ثانياً، نشر ألغام سياسية، قانونية، وإجرائية، ومالية تحت مسمى الإصلاحات، بما سيؤدي إلى “فريكست”، أي خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي (أسوة بالبريكسيت البريطاني) وربما نسف أسس الاتحاد نفسه لما لفرنسا من وزن فيه. ثالثاً، الاصطفاف أوروبياً، وإن بطرق مواربة خلف قيادة روسيا – فلاديمير بوتين الذي استثمر منذ أمد طويل في الأحزاب الشعبوية اليمينية الراديكالية، كحزب “التجمع الوطني” في فرنسا، وغيره من الأحزاب اليمينية عبر أوروبا من المجر (حزب رئيس الوزراء فيكوتور أوربان) وصولاً إلى إسبانيا (دور روسيا في الحركة الانفصالية الكاتالونية). ولا ننسى الصلات غير المرئية لروسيا مع الأحزاب اليسارية الراديكالية التي بانت من خلال المواقف “المائعة” من حرب روسيا على أوكرانيا التي تصب في مصلحة موسكو، من حزب كـ”فرنسا العصيّة” بزعامة اليساري جان لوك ميلانشون المرشح للرئاسة الذي حاز نسبة معتبرة من الأصوات. رابعاً المقاربة التي تتصل بالهجرة والمهاجرين والمواطنين المسلمين في فرنسا وملامستها العنصرية شبه المعلنة، بما يؤجّج العلاقات بين فرنسا الرسمية وشريحة مهمة من مواطنيها، فضلاً عن العالم الإسلامي عامةً.
يستحيل القول إن سياسة الرئيس إيمانويل ماكرون الخارجية كانت مثالاً للنجاح، أكان في لبنان أو في تدخل فرنسا في ليبيا أو الساحل الأفريقي. لكن يستحيل أيضاً الزعم أن فرنسا بخيارها الأوروبي – الأطلسي تسير في طريق خاطئ. كما أن محاولاتها التدخل لإنقاذ لبنان ما كانت لتقرن الوعود بالأفعال والنتائج. لكن السياسة البراغماتية، الوسطية الغربية لفرنسا في ظل ماكرون، تبقى أقل خطراً من تجربة يمينية راديكالية متحالفة، وإن ضمناً مع روسيا فلاديمير بوتين، وبقية الأحزاب اليمنية العنصرية في أوروبا، فضلاً عن باقة من الحكام الدمويين أمثال الرئيس السوري بشار الأسد الذي تجمعه مع مارين لوبن وفريقها المقرب علاقات وثيقة معروفة. والمشكلة في خيارت المرشحة لوبن في السياسة الخارجية أن شبح الرئيس الروسي يخيم على محددات هذه الخيارات. وهي خطيرة للغاية وتقطع نهائياً مع ما تبقى من الإرث الديغولي المطعّم بأفكار الوسط (ذي المنحى اليميني) البراغماتي والعقلاني الذي يراهن على وحدة أوروبا، وتدعيم حلف “الناتو”، والرهان على الشراكة المتوسطية، والعلاقات التي لا تسكنها مواقف متطرفة عنصرية راديكالية من كل ما له صلة بالإسلام والمسلمين والعرب عموماً.
ثمة قول شهير يقول: الشيطان الذي تعرفه أفضل من الذي تجهله.