الرئيسية / مقالات رأي / كل مال البنك الدّولي لا ينقذ لبنان

كل مال البنك الدّولي لا ينقذ لبنان

بقلم: راغب جابر – النهار العربي


الشرق اليوم – لن يبني اللبنانيون وطناً حتى لو ضخ البنك الدولي والدول المانحة من أشقاء وأصدقاء عشرات المليارات من الدولارات في شرايين البلد المنكوب. بناء الأوطان ليس عملية مصرفية ولا حوالة خارجية.
كان لبنان دائماً مشروع وطن لم يكتمل. ظل حالة جنينية ضعيفة معرّضة للإجهاض في أي لحظة حتى سقطت السقطة المريعة. تاريخه يشهد وكذلك حروبه وأدبياته السياسية وتحولاته الاجتماعية، بما فيها من ظواهر ومظاهر.
لبنان الذي يستجدي القريب والبعيد للخلاص من أسوأ أزمة اقتصادية اجتماعية يمر بها منذ إنشائه كياناً سياسياً مستقلاً كدولة معترف بها ذات سيادة، لبنان هذا يسير في مسار مناقض تماماً للمسارات الطبيعية والحقيقية لإقامة الدول واستمرارها.
قد يأتي بعض المال من هنا وهناك، وقد يمد العالم البلد ببعض المصل كي لا يموت الناس جوعاً في الطرق (هم بدأوا يموتون في المنازل المغلقة على أسرارها وكراماتها جوعاً ومرضاً وقهراً)، لكن كل ذلك لن يصنع وطناً. لأن الوطن يحتاج لبنّاء من أهله وهو غير موجود، أو بالأحرى قُضي عليه.
لقد قضى النظام اللبناني بتركيبته، المتداخل والمتقاطع والمتشابك والمشتبك فيها، الطائفي بالإقطاعي بالرأسمالي بالاشتراكي بالعروبي بالفينيقي باليميني باليساري بالفوضوي بالعشائري بالإيماني بالعلماني بالغيبي بالولائي … على العنصر الأساس لبناء وطن. لقد قضى على الإنسان. الإنسان باعتباره كائناً حراً يملك عقلاً وإرادة، وباعتباره مواطناً.
اللبناني مسلوب الإرادة والحرية ومُصادر التفكير. يكاد يكون مخدراً ومسيّراً ومبرمجاً حتى، كما يبرمج جهاز الكمبيوتر، أو الروبوت، أو الإنسان المعدل جينياً في أفلام الخيال العلمي.
تبدأ القصة منذ يوم الولادة، عندما تحدد ديانة العائلة مصير المولود الذي يفترض أن يصبح مواطناً في وطن، في عمر السنتين يلقي الأهل بمواطن المستقبل في حضانة الحي التي تحمل اسماً مقدساً من أسماء الطائفة، حيث يبدأ التعرف إلى الأدبيات الأولى للطائفة، ثم ينتقل بعد سنة أو اثنتين إلى مدرسة الطائفة التي تحمل بالطبع اسم قديس(ة) أو ولي(ة) أو قائد تاريخي أو محارب شرس… هناك يبدأ العمل على عقله وتأطيره وتعليبه، ومن المدرسة ينضم الولد إلى كشافة الطائفة أو الحزب. ولكل طائفة وحزب في لبنان كشافته. هناك يبدأ العمل على الأدلجة والتنظيم قبل الالتزام. للكشافة في لبنان وظيفة مختلفة كلياً عن وظيفة الكشافة في العالم. تشابه في الأسماء فقط.
يشجع الشاب اللبناني غالباً الفريق الرياضي التابع للطائفة، خلا حالات قليلة، ويتعارك شباب الطوائف والأحزاب في الملاعب تعاركاً همجياً ومشيناً، ويشتمون رموز بعضهم يعضاً ومقدساتهم. وغالباً ما يقصد الشباب اللبناني الجامعات الطائفية التي أنشاتها أحزابهم وطوائفهم لاستكمال امتلاك عقولهم وإراداتهم. حتى الجامعة اللبنانية المفترض أنها موحدة للشباب حوّلوها فروعاً طائفية تحكمها الطوائف المسيطرة فيها وحولها.
في لبنان حيث الرموز الدينية والطائفية تتصدّر واجهات المدارس والجامعات والأندية الرياضية، وحتى محال الخضر والفروج والأفران… لا مفر من “القالب” و”القيد”. ينشأ اللبناني مقولباً بقوالب الطائفة وأحزابها، ومقيّداً بسلاسل الزعيم ورهاب الآخر، سواء انتمى إلى حزب طائفي أم لم ينتم.
اللبناني في لبنان ليس مواطناً كما هو المواطن في فرنسا أو ألمانيا أو ماليزيا أو سنغافورة أو الصين… هو لا ينتمي إلى وطن ولا يؤمن غالباً بهذا الوطن، وإذا آمن فإيمانه ضعيف يسقط عند أول تجربة. اللبناني يؤمن بالجماعة الطائفية التي ينتمي إليها، ويؤمن بمقدسات الطائفة وبزعمائها وبـ”قضاياها” وقبضاياتها. الدين يصبح هنا تفصيلاً ليس مهماً التقيّد بروحانيته وقيمه.
في لبنان الذي يكاد يختفي فيه مفهوم الإنسان – المواطن الحر لمصلحة الإنسان – الزبون الطائع، لن تقوم دولة ولن تصبح هذه البقعة بمن عليها وطناً ما دام العقل المعطوب ذاته لا يزال هو القائد. لا تُبنى الأوطان بالسّير بالمقلوب. عقلية القرون الوسطى لم تعد صالحة لليوم، والتاريخ هو للتذكر والتفكر وليس لصنع الحاضر والمستقبل.
في ذكرى الحرب الأهلية التي اندلعت في مثل هذه الأيام قبل 47 عاماً لأسباب اختلط فيها الوطني بالقومي بالطبقي بالطائفي بالعربي بالدولي بالفلسطيني، استقر النظام اللبناني رسمياً وشعبياً على طائفية مدمّرة، تغلغلت في كل ثنايا الحياة اليومية للبنانيين. لبنان اليوم في أسوأ حالاته شعبياً واجتماعياً. دعكم من الفساد والانهيارات المتتالية في الاقتصاد والأمن والسياسة.
وفي ذكرى الحرب، اليد على القلب من أن تنذكر وتنعاد. الطائفية المستشرية بهذا الشكل تهدد بانفجار في يوم ما، قد يبدأ من ملعب أو جامعة أو شارع، أو من برنامج تلفزيوني… ولا تظنن أن في البلد من يهتم فعلاً بإطفاء لهيبها. اللاطائفيون قلة لا حول لها ولا قوة في بلد يعيش في القرون الوسطى بكل معنى الكلمة.
الانتخابات النيابية على الأبواب، والصراع في معظمه طائفي ومذهبي. الخطابات تستبطن تجييشاً طائفياً ومذهبياً، مباشراً أحياناً وموارباً أحياناً أخرى. الكلام صريح والأشياء تسمى بمسمياتها السنية والشيعية والمارونية والدرزية والأرثوذكسية والأرمنية والكاثوليكية والعلوية … حتى الكلام عن المنطقة هو في العمق كلام طائفي. المنطقة هي أرض الطائفة. هي الطائفة بعينها. سيرتفع الخطاب الطائفي في الأيام المقبلة ليصل إلى السماء.
فما أقل المواطنين وما أكثر الزبائن، وما أبعدنا عن أن نكون وطناً.

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …