بقلم: محمد قواص – النهار العربي
الشرق اليوم – بثّ إعلام روسيا نحو العالم صوراً لحضور الرئيس فلاديمير بوتين في 8 نيسان (أبريل) مراسم جنازة السياسي اليميني المتطرف فلاديمير جيرينوفسكي. لم يكن الهدف التلميح إلى ودّ الزعيم الروسي لرئيس الحزب الليبرالي الديموقراطي القومي المتطرف، بل التنبيه إلى تفصيل آخر كان يهمّ بوتين أن يذكّر به العالم أجمع. حتى أن هناك من وصف الحدث بـ “الجنازة النووية”.
أُخليت كاتدرائية المسيح المخلص في موسكو، حيث سجيّ جثمان جيرينوفسكي، تماماً، حتى من الأهل والأقارب، في مشهد يتناقض مع رسالة الرعب التي أراد بوتين إرسالها. ذلك أن كل اهتمام المشهد انصبّ على نحو متكلّف مفرط على حارس يرتدي حلّة سوداء كان يحمل حقيبة تحتوي على الرموز اللازمة التي تتيح شنّ هجوم نووي من بعد.
الرئيس الروسي الذي أمر بتجهيز “أسلحة الردع الاستراتيجية” النووية في اليوم الرابع لحربه على أوكرانيا، ما برح يذكّر بهذا الخيار الذي من شأنه إذا ما قوبل بخيار مضاد أن يدمر الكوكب مرات عدة. في هذه الأجواء بالذات كان الناخبون في فرنسا يقترعون بعد يومين في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية وفق معايير القدرة الشرائية وأسعار الطاقة وبرامج التقاعد، وهي لا شك قضايا مهمة جداً، لكنها سريالية في موسم العدم الذي يتوعد بوتين به أوروبا وفرنسا والعالم.
بدا أن الفرنسيين غير مصدّقين لأخطار حرب تدور في أوروبا، وأنهم منهمكون بجلبة بيتية تقليدية غير معنيين بالقدر الذي ستذهب إليه الحرب هناك. وإذا ما كان بوتين يعيد التهديد بالسلاح النووي وهو في وداع شخصية قومية متطرفة، فإن ما خرج من صناديق الاقتراع الفرنسية رفع احتمالات حقيقية جدية بأن تتبوأ مارين لوبن زعيمة اليمين القومي المتطرف سدة الرئاسة في البلاد.
وللرئيس الروسي أصدقاء أوفياء في أوروبا. في المجر، وهي الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي، حقق حزب “فيدس” القومي برئاسة صديق بوتين، فيكتور أوربان، نصراً كبيراً في انتخابات 3 نيسان (أبريل). وفي صربيا، وهي الدولة المرشحة لعضوية الاتحاد، وفي اليوم نفسه، حقق الحزب “التقدمي الصربي” الحاكم برئاسة صديق بوتين أيضاً، ألكسندر فوتشيتش، الفوز وضمان استمرار حكمه. ولئن يجاهر الزعيمان، المجري والصربي، بالودّ لبوتين والفخر بالصداقة معه، فإن احتمال دخول لوبن إلى قصر الإليزيه حمل إلى الكرملين أخباراً سارة قد تعوّض تلك الملتبسة الواردة من الجبهات في أوكرانيا.
لم تخفِ مارين لوبن صداقتها مع الزعيم الروسي. والمفارقة أن هذا الأمر، رغم محاولتها أخذ مسافة انتخابية من زعيم الكرملين إثر حرب أوكرانيا، لم يردع الناخبين عن دفعها من جديد لمواجهة خصمها إيمانويل ماكرون في الدورة الثانية في 24 نيسان (أبريل). لم تستطع لوبن لقاء دونالد ترامب حين كان مرشحاً لانتخابات بلاده الرئاسية عام 2016. لكن بوتين استقبلها في الكرملين ومنّ عليها بصورة فوتوغرافية مشتركة تعينها في الدفاع عن ترشّحها في الانتخابات الرئاسية الفرنسية لعام 2017. حصل حزبها عام 2014 على قرض مالي روسي وصل إلى 9.3 ملايين يورو من مصرف روسي مرتبط ببوتين، وكشف حزبها، مجدداً، عن رغبته في الحصول على قرض جديد بقيمة 30 مليون يورو لتمويل حملة رئيسته للانتخابات الرئاسية سنة 2017 من دون كثير معلومات حول ما انتهى إليه الأمر.
لبوتين نفوذ داخل الاتحاد الأوروبي. حتى أن الوفد الأوكراني أعلن بعد جلسة مفاوضات أوكرانية – روسية في إسطنبول في 29 آذار (مارس) أن موسكو الرافضة لانضمام أوكرانيا إلى حلف “الناتو” ليس لديها مانع في انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. والواضح أن الرئيس الروسي يعوّل على “أصدقائه” لاختراق الحصن الأوروبي والتحكّم بخياراته.
وإذا ما حمل ناخبو فرنسا مارين لوبن إلى سدّة الحكم، فإن ديمومة الاتحاد الأوروبي تصبح مُهدّدة، ذلك أن لوبن، التي تطالب بخروج فرنسا من “الناتو” والتي لطالما اعتبرت أن “موت الاتحاد هو مسألة وقت”، تدعو إلى التعجيل في ذلك واستبدال “تحالف الأمم الأوروبية” به، الذي، بحسب برنامجها، يخرج فرنسا من الاتحاد ويعيد إلى الدول الأوروبية سيادتها واستقلالها.
وتكاد لوبن تنطق بما يريده بوتين لـ “النادي الأوروبي”. لم يحبّ الرئيس الروسي نموذح الاتحاد الأوروبي وما يحمله من قيم سياسية ليبرالية ديموقراطية تمجد حقوق الإنسان. لا يريد هذا النموذج الجاذب لدول أوروبا الشرقية الخارجة من زمن الاستبداد السوفياتي خلال 70 عاماً المهرولة نحو حصون غربية بديلة. يكره بوتين تلك التقليعة الديموقراطية التي يشترطها الاتحاد لعضويته والتي بسببها أنتجت أوكرانيا ستة رؤساء منذ استقلال البلد عام 1991. وهو نموذج يُخشى من تمدده صوب روسيا وتهديد نموذج حكم أتى ببوتين حاكماً وحيداً منذ عام 1999، ويستطيع دستورياً البقاء حتى عام 2036.
أحزاب اليمين المتطرف والتيارات الشعبوية عقدت في سان بطرسبورغ في روسيا مؤتمرها في ربيع 2015. موقف هذه التيارات، كما موقف لوبن، كان مدافعا عن العملية العسكرية لضم القرم إلى روسيا عام 2014. بعض هذه الأحزاب وصل إلى السلطة في النمسا وإيطاليا وبولندا والمجر، فيما تقدمت أحزاب أخرى تقدما لافتا في بلدان أخرى، منها فرنسا وألمانيا.
لكن لبوتين صداقات تتجاوز التيار اليميني المتطرف باتجاه اليمين الوسط واليسار الوسط. فرانسوا فيون مرشح اليمين الديغولي الفرنسي للانتخابات الرئاسية لعام 2017 كان يردد أنه صديق للزعيم الروسي، كما أن شخصيات فرنسية يمينية معتدلة عبرت دائما عن تأييد روسيا. يحظى بوتين أيضا بتعاطف مرتبك لليسار الأوروبي، ويطيب لبوتين الإشادة بمستشار ألمانيا السابق غيرهارد شرود، وهو يساري من قادة الحزب الديموقراطي الاجتماعي، ويشغل حاليا منصب رئيس مجلس إدارة شركة غازبروم الروسية.
فوز “صديقة بوتين” في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية ترتاح إليه موسكو ويُقلق واشنطن. الأمر يهدد وجود الاتحاد الأوروبي ووحدته، ومن شأنه أن يقوّض الحلف الدولي المناوئ لحرب روسيا على أوكرانيا ويصدّع جدران المنظومات الديموقراطية في العالم من خلال ازدهار شبكة التيارات القومية المتطرفة من الهند إلى البرازيل مرورا بأوروبا. مصير الإليزيه رهن مزاج ناخب يتأمل تكلفة العيش وسنّ التقاعد. قام المرشح الشعبوي المتطرف إيريك زيمور بـ “العمل القذر” الذي كانت لوبن وحزبها يتوليانه في موضوع الهجرة والعنصرية وكره الأجانب. تغيرت صورة لوبن مقارنة بزيمور، حتى أن إحدى المقترعات قالت إنها انتخبت مارين لأنها باتت أكثر لطفا وكياسة.