بقلم: جمال أبو الحسن – المصري اليوم
الشرق اليوم – كان «صن تسو» فيلسوفا وخبيرا بالحروب، عاش في الصين حول العام 500 قبل الميلاد. هو ألف كتابا صغيرا ضمّنه خلاصة تجربته في الحروب والسياسة تحت عنوان «فن الحرب». الكتاب اختير كواحد من مقررات البحرية الأمريكية في السبعينيات. مازال الكثيرون يلجأون إليه، ليس فقط من العسكريين، وإنما أيضا من مديري الشركات والرياضيين. النصائح الواردة في الكتاب تصلح لأي موقف ينطوي على منافسة أو صراع، ويتطلب خطة واستراتيجية طويلة المدى لتحقيق النصر. برغم أن النصائح قد مضي عليها 2500 عام، إلا أنها مازالت صالحة لفهم وتفسير ما يجري في أوكرانيا اليوم.
الجملة الافتتاحية في كتاب «صن تزو» هي: «لا يوجد في حياة الأمم ما هو أخطر من قرار شن الحرب، فالحرب لا تتوقف عند كونها ساحة للدم تزهق فيها أرواح الجنود، وإنما هي جهد جماعي لكل أفراد المجتمع، ويُمكن أن تحول بلادا بأكملها إلى أراضٍ يعمها الخراب والدمار (…) الحرب مسألة خطيرة للدولة، إنها ميدان الحياة والموت، وهي الطريق الذي تؤدي إلى العيش أو الفناء».
نظرة «صن تزو» للحرب صحيحة. لم تؤثر ظاهرة في مجريات التاريخ البشري قدر ظاهرة الحرب. تأثيرات الحروب تتجاوز العلاقات بين الدول، وتغيير الحدود وموازين القوى، إلى تغييرات في طبيعة المجتمعات وطريقة تنظيمها، وفي التكنولوجيا المستخدمة في كل عصر، وانتشار الأيديولوجيات والأديان. يندر أن نجد ظاهرة كبيرة في عالمنا لم تسهم الحرب في تشكيلها وبلورتها بصورة أو بأخرى. الحرب في أوكرانيا ليست استثناءً من هذا النمط. غير أنه ليس بمقدورنا في هذه اللحظة، وفي وسط معمعة المعارك التي مازالت تتوالى فصولا، الإحاطة عِلما بمُجمل التأثيرات العميقة التي ستخلفها هذه الحرب في عالمنا. الأمر مرهون أيضا بالطريقة التي سوف تنتهي بها الحرب، وأي الأطراف سوف يخرج منها منتصرا وأيها يخرج خاسرا، فضلا عن المدى الزمني الذي سوف تستغرقه العمليات العسكرية.
على أن ثمة نتائج للحرب الأوكرانية يُمكن- في نظر كاتب السطور- استخلاصها في هذه المرحلة، وبغض النظر عن نتائج الحرب أو مداها الزمني. في الوقت الذي يبدو صعبا التكهن بنتائج الحرب بالنسبة لأطرافها، فإن تصور نتائج الحرب وتبعاتها على العالم على اتساعه يُعد أمرا أيسر. هذه الحرب أدخلت العالم كله بالفعل في مرحلة أشد قتامة، وظللته بغيمة سوداء. العالم كله تقريبا في حالٍ أسوأ مما كان عليه قبل 24 فبراير الماضي.
لقد ضربت الحربُ وآثارها الاقتصاد العالمي في وقتٍ كان فيه مثل المريض الذي يتعافى بصعوبة من آثار جائحة لم يشهد العالم مثلها لوقتٍ طويل. تأثيرات الحرب المتتابعة على أسعار الطاقة والغذاء، فضلا عن تأثير العقوبات على روسيا، وتراجع التجارة الدولية، من شأنها تكوين «كتلة حرجة» من الأزمات والمشكلات. في وضعٍ كهذا، يصعب التنبؤ بمكان وتوقيت الأزمة الكبيرة القادمة، ولكن من السهل التنبؤ بأن أزمات كبرى سوف تقع. بتعبير الشاعر صلاح عبدالصبور: «رعبٌ أكثر من هذا سوف يجيء». من السهل أيضا التنبؤ بأنه كلما طال المدى الزمني لهذه الحرب، كلما توالت تبعاتها وظهرت آثارها في أماكن مختلفة من العالم. هذا بالضبط ما أراد أن يخبرنا به «صن تزو» بحديثه عن خطورة الحرب، وارتباطها بالبقاء والفناء.
ماذا لدى الفيلسوف الصيني أيضا؟ يقول «تزو» إن المحارب الجيد عليه تجنب احتمال الهزيمة، ثم ينتظر بعدها فرصة لإنزال الهزيمة بعدوه. هذه الحكمة، التي تبدو بسيطة، تُفسر الكثير من النتائج غير المتوقعة للحروب عبر التاريخ. هي تفسر أيضا السبب وراء «تعثر» الاستراتيجية الروسية. يبدو أن هذه الاستراتيجية لم تأخذ في اعتبارها ضرورة «تجنب الهزيمة» أولا، قبل السعي وراء النصر. بُنيت الاستراتيجية الروسية على أساس من الحسابات الخاطئة بشأن القوة الأوكرانية، وعناصرها غير المنظورة (إرادة القتال/ تأثير القومية/ فاعلية السلاح الغربي). يقول «تزو» أيضا إن القائد الذي يعرف العدو ويعرف ذاته جيدا (أي يعرف قدرات العدو وقدرات الذاتية)، ليس له أن يخشى نتائج مائة معركة. هذه الحكمة أيضا بدت غائبة عن العملية الروسية.
غير أن الفكرة الكبرى التي جاء بها «تزو» تتعلق بكون «فن الحرب» أبعد من مجرد ممارسة القوة العسكرية. لذلك فإن «أسمى مراتب فن الحرب يتعلق بإخضاع العدو دون قتال». حقيقة الأمر أن هذا بالضبط ما سعى الرئيس الروسي إلى إنجازه عبر الحشد العسكري على حدود أوكرانيا قبل شهور من العملية. كان الهدف هو إخضاع أوكرانيا وإجبارها على الإذعان لمطالب روسيا. المحصلة الفعلية لمطالب روسيا كانت إقرارا ضمنيا بخسارة أوكرانيا لاستقلالها الفعلي، ولاستقلالية قرارها الاستراتيجي. كانت المناورة الروسية ستُحسب نجاحا كاملا لو أنها نجحت في إخضاع أوكرانيا من دون قتال، أو بقتال منخفض الحدة والخسائر يكون من شأنه إقناع الأوكرانيين بحتمية الاستسلام. هذا أيضا لم يحدث، وكان أن دخلت روسيا مرحلة خطيرة من «ممارسة القوة العسكرية» من دون هدفٍ استراتيجي واضح. الدمار والقتل في المدن الأوكرانية ليس فقط مستهجنا من الناحية الأخلاقية، وإنما هو يكشف عن قدرٍ معتبر من التخبط الاستراتيجي. إنه قتلٌ بغرض التنكيل. والتنكيل ليس استراتيجية.
هل باستطاعة موسكو إلحاق دمار أكبر بأوكرانيا؟ بالطبع بإمكانها ذلك. من الناحية النظرية، تستطيع روسيا تدمير أوكرانيا كليا. لماذا لا تفعل ذلك إذن؟ لماذا لا تحطم كافة المُقدرات الأوكرانية، من بنية أساسية ومحطات المياه والكهرباء؟ لماذا لا تقتل أعدادا أكبر من المدنيين؟ ببساطة لأن الروس يفهمون ما كان يرمي إليه «صن تزو». الغزو لا معنى له إن كان ينطوي على تدمير كافة مُقدرات البلد المُحتل. إشاعة الكراهية بين سكان البلد المحتل جراء قسوة العمليات العسكرية هي وصفة لمزيد من المقاومة للاحتلال في المستقبل. الروس يفهمون هذا أيضا. الإمبراطوريات الناجحة حرصت، عبر التاريخ، على ممارسة القدر المنضبط من العنف، الذي يُحقق النتائج الاستراتيجية من الحرب بأقل تكلفة. كان الروس بالتأكيد يسعون إلى هذا، لكنهم أخطأوا الحساب.
واحدة من المشكلات المزمنة في الحروب الحديثة تتعلق بتعريف النصر. الرئيس عبدالناصر اعتبر أن مصر انتصرت في 1956 برغم الهزيمة العسكرية، وبرغم اجتياح إسرائيل لسيناء. النصر المصري كان سياسيا. كذلك في أكتوبر 1973 نجحت مصر في القيام بعملية عسكرية يُمكن البناء عليها لتحقيق الهدف الاستراتيجي الأعلى، وهو تحرير الأرض المصرية. في حرب الشتاء في 1940، نجحت فنلندا الصغيرة في صد الاعتداء السوفيتي. حققت الهدف بالحفاظ على استقلالها، لكن عبر كلفة بشرية هائلة، وأيضا بعد اقتطاع جزء من إقليمها يوازي نحو 9% من مساحتها. السوفييت حصلوا على أراضٍ أكثر من تلك التي طالبوا بها قبل بدء النزاع. على أن سمعتهم الدولية تضررت كثيرا، بسبب الغزو نفسه، وكذلك بسبب الأداء الهزيل للقوات السوفيتية في مواجهة القوات الفنلندية التي أثبتت صمودا وضراوة غير متوقعة.
هل نكون أمام موقف مشابه اليوم في أوكرانيا؟ من الصعب التكهن بمسار الأمور، إن عسكريا أو دبلوماسيا. المؤكد أن كل يوم يمر يزيد من توقعات الأطراف بحربٍ طويلة، ونزاع ممتد. بما يفرز مواقف أشد تصلبا وأقل ميلا لمنطق التسوية والحلول الوسط. هذا أيضا تحدث عنه «صن تزو» عندما حذر القائد العسكري من خوض الحرب الطويلة!