بقلم: د.خليل حسين – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – لم يمض وقت طويل على الأزمة الأوكرانية وخلفياتها الرئيسية الانضمام إلى حلف الناتو، حتى أعلن الرئيس الفنلندي، ساولو نينستو، ورئيسة الوزراء سانا مارين، نية بلادهما الانضمام أيضاً إلى الحلف، في وقت يشهد الإقليم الأوروبي توتراً غير مسبوق مع روسيا، وحيث يتصاعد منسوب التوتر بين موسكو وواشنطن على خلفية ما يجري في أوكرانيا، وقضايا دولية ذات صلة بتناقضات وتباينات ليست لها حدود.
وفي واقع الأمر، ثمة خصوصية للتحوّل الفنلندي حالياً، فهو لا يقتصر على موقف من الحرب الروسية على أوكرانيا، وإنما يتعدى الأمر إلى طرح موضوع كان سبباً في إطلاق الحرب في أوكرانيا، بمعنى آخر، أن الإشارة إلى نية مطالبة فنلندا بالانضمام إلى حلف الناتو في اجتماع القمة المقرر في 28 و29 يونيو/ حزيران المقبل في العاصمة الإسبانية مدريد، لهو قرار ذات صفة تنفيذية عاجلة، لا سيما وأن الحكومة الفنلندية تتسلح بموقف شعبي وازن لمصلحة الإنضمام الذي وصل إلى 65 في المئة حالياً، بعدما كان 54 في المئة بداية الأزمة الأوكرانية، ما يعني أن ثمة قناعة في المجتمع الفنلندي بأن اعتبارات الحرب ووسائلها قادمة إليها، وبالتالي تعتبر الانضمام إلى «الناتو» وسيلة للاحتماء من أي تطورات مقبلة.
وما يعزز من أجواء التأزم الحاصل في الإقليم الأوروبي عامة، والفنلندي بخاصة، حالياً، الواقع الجيوسياسي الذي تعايشت معه هلسنكي في محيطها الملاصق، وبخاصة الاتحاد السوفييتي سابقاً، وروسيا الاتحادية حالياً، فهي تلاصق 1330 كيلومتراً من الحدود المشتركة مع روسيا، وهي عملياً أطول حدود لدولة أوروبية مع روسيا، ولها الكثير من التاريخ الملتهب معها إبان الحرب العالمية الثانية، والتي خاضت حينها حربين خاسرتين إلى جانب ألمانيا النازية ضد موسكو، وفرضت عليها عقوبات اقتصادية كبيرة لمصلحة موسكو، كما جرى لألمانيا بعد الحرب.
وعلى الرغم من احترام حيادها المعلن إبان الحرب الباردة، وبخاصة من موسكو وغيرها، ظلت الإدارة الفنلندية تعيش حالات قلق واضطراب سلوكي في علاقاتها الأوروبية والدولية، ودليل ذلك أنه رغم إعلان حيادها واحترام المجتمع الدولي له، لم تلغ الخدمة العسكرية الإلزامية، وحافظت على مستوى التطوير العسكري عبر موازنات عسكرية عالية في محاولة للإيحاء بحماية حيادها بوجه أي قوى طامحة فيها، لا سيما وأن العنصرين التاريخي والجيوسياسي، يُسعفان إبقاءها في جو دائم من التوجس والخوف احتياطاً.
وثمة مؤشرات، وحراك فنلندي وأوروبي ودولي لا يوحي بالراحة، وهي على شبه كبير بالظروف والمقدمات التي أحاطت بالحربين العالميتين، الأولى والثانية، لجهة تكتيل القوى وجرّها إلى سياسات محاور، وإنشاء أجواء وبيئات ذات طابع توتيري، وهو أمر من السهل أن يخرج عن نطاق السيطرة ويؤدي إلى إشعال حروب لا يمكن السيطرة عليها لاحقاً، ولا القدرة على التحكم فيها، أو إدارة مجرياتها، أو نتائجها اللاحقة، لا سيما وأن الواقع الجيوسياسي لمجمل المنطقة الفنلندية – الروسية يحتوي عملياً، عناصر تعتبر في صميم المجال الحيوي الروسي، وبالتحديد مناطق لا يمكن لروسيا أن تسمح لأحد اللعب بها، كمنطقة دول استونيا ولاتفيا وليتوانيا، وقد أعلنت هذه الأخيرة أن حلف الناتو سيرسل قوات إلى أراضيها لمواجهة أي تهديدات محتملة مستقبلاً.
في أي حال من الأحوال، تتلبد في الإقليم الأوروبي عناصر كثيرة ذات طابع تفجيري، وبصرف النظر عن نية القوى القادرة، أو التي تمتلك الإرادة والقرار لتحريك القضايا الراكدة على صفيح ساخن، فإن الساحة الدولية تتهيأ لصراعات عسكرية وأيديولوجية واقتصادية، وغريب المفارقات أن ثمة مظاهر المواجهة تتجمع بين فريقين رئيسيين، الأول تقوده واشنطن ويمثل رأسمال ريعي أساسه المال والأسهم والتجارة، والثاني رأسمال إنتاجي تمثله كل من روسيا والصين. فهل يتحضر المسرح الأوروبي عبر البوابة الأوكرانية، والفنلندية لاحقاً، إلى إشعال حرب عالمية من نوع آخر، حرب بين رأسمالين ريعي وإنتاجي، وكلاهما من نفس البيئة والكنف الاقتصادي؟