بقلم: أزراج عمر – النهار العربي
الشرق اليوم – تميز المشهد السياسي الجزائري هذا الأسبوع ببروز قضيتين ساخنتين إلى واجهة الأحداث مجدداً. تتعلق القضية الأولى باعتقال عدد ممن يدعون في الأدبيات السياسية لدى بعض أجنحة المعارضة الجزائرية بمعتقلي الرأي ثم إطلاق سراحهم. أما القضية الثانية فتتصل بسحب كتابي “العقائد الإسلامية” و”الشرك ومظاهره” لكل من الشيخين الإمام عبدالحميد بن باديس والمؤرخ مبارك الميلي على التوالي من المعرض الدولي للكتاب في الجزائر الذي أسدل الستار على فعالياته يوم 1 نيسان (أبريل).
في خصوص القضية الأولى، فقد صدر يوم الجمعة الماضي بيان سياسي عن “حزب القوى الاشتراكية” (الأفافاس) اعتبر فيه إطلاق سراح عدد من معتقلي الرأي بمثابة خطوة في الطريق الصحيح من أجل فتح المجال لمسار سياسي خالٍ من ممارسات الحجر على حرية التعبير ومصادرة الرأي السياسي المخالف. وألح الحزب على ضرورة “تحرير المجالات السياسية، والنقابية، والجمعوية والإعلامية، ورفع كل القيود عن الحريات الأساسية، الفردية منها والجماعية، من أجل استحضار الشروط المثلى لافتتاح حوار وطني شامل يتوج بعقد وطني متوافق عليه يؤسس لتغيير حقيقي، وجذري، وسلمي وسلس لنظام الحكم”.
ولكن قضية هؤلاء المعتقلين الذين أطلق سراحهم تحفل بكثير من الملابسات، فهناك من يرى، وبخاصة على مستوى هرم السلطات الجزائرية الحاكمة، أن هؤلاء لم يكونوا مجرد أصحاب رأي سياسي أو فكري، بل إن عدداً معتبراً منهم وظف الحراك الشعبي سابقاً قناعاً لتحقيق مآربه مثل زعزعة الأمن العام وتهديد الوحدة الوطنية فضلاً عن التورط مع جهات داخلية وخارجية يقال إنها تحاول المساس بالأمن العام وضرب بنية الدولة الجزائرية.
لا شك في أن المقصود بهذه الجهات المتهمة بتهديد البلاد وبالارتباط بأجندات قوى معادية خارجية هما على التوالي حركة “الماك” بقيادة المغني الأمازيغي فرحات مهني والمجموعة القيادية التي تعمل معه في السر والعلن انطلاقاً من الأراضي الفرنسية وتطالب بالاستقلال الذاتي للمنطقة الأمازيغية حيناً وتدعو إلى انفصال هذه المنطقة التام عن الكيان الجزائري وتأسيس جمهورية للأمازيغ حيناً آخر، وحركة “رشاد الإسلامية” بقيادة العربي زيطوط المقيم في بريطانيا والذي كان سابقاً واحداً من رجال النظام الجزائري في السلك الدبلوماسي.
ولقد صنف النظام الجزائري هاتين الحركتين أخيراً في خانة الإرهاب واعتبر كل من ينتمي إليهما وينشط ضمن إطاريهما إرهابياً تجب ملاحقته وتجريمه.
وفي الواقع ،فإن حركة “الماك” التي توصف بالتطرف هي حركة مجهرية معزولة، حتى داخل مسرح المنطقة الأمازيغية التي تضم محافظات عدة (ولايات) ذات غالبية سكانية أمازيغية مثل تيزي وزو، بويرة، بومرداس، بجاية ومنطقة الأوراس بكامل، فضلاً عن جزء من جغرافيا الطوارق الأمازيغ في الجنوب الصحراوي الجزائري.
وبسبب كونها مشكلة من أقلية بشرية تفتقر غالباً إلى التنظيم الحزبي والتأثير الإعلامي، فإن حركة “الماك” لا تقدر أن تحدث أي انقلاب جوهري في المعادلة السياسية الجزائرية، بل إنها كانت وستبقى مجرد ظاهرة شكلية ليست لها أي سلطة معنوية أو مادية في المحافظات الأمازيغية وهي تتحرك في فضاء وسائل التواصل الاجتماعي فقط. وتتمثل قوة هذه الحركة عموماً في ضعف استراتيجيات النظام الجزائري إزاء حماية اللغة الأمازيغية وآدابها وتراثها الثقافي والفني، وكذا حل مشكلات التنمية والرفاه الاجتماعي.
وهنا نتساءل: إذا كانت محافظة تيزي وزو ومحافظة بجاية معقلين أساسيين لما يدعى بنفوذ حركة “الماك” فكيف نفسر إذاً سيطرة كل من حزب “جبهة التحرير الوطني” المحسوب على النظام الجزائري، وحزبي “القوى الاشتراكية” و”التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية” المعارضين على الانتخابات البلدية والولائية والبرلمانية وعدم قدرة أعضاء “الماك” على انتزاع مناصب في هذه الانتخابات؟
أما حزب “رشاد الإسلامي” فهو أيضاً مجرد ظاهرة فايسبوكية ولا يحظى بأي نفوذ حقيقي بين أوساط الأحزاب الإسلامية الكبرى التي تتصدر المشهد السياسي الجزائري مثل حزب “حركة البناء” الذي يتقاسم الكثير من المواقف مع السلطات الحاكمة وله تمثيل في البرلمان بغرفتيه وفي السلك الدبلوماسي والحكومة التنفيذية، وحزب”حركة مجتمع السلم” (حمس) الذي عين الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون أخيراً أحد أقطابه أبو جرة سلطاني سيناتوراً في مجلس الأمة (الغرفة الأولى من البرلمان) بالإضافة إلى تعيين عدد آخر من أعضائه في مختلف مناصب الدولة الحساسة وذلك في إطار تقاسم “كعكة السلطة”.
أما في خصوص قضية كتابي الراحلين الإمام عبدالحميد بن باديس والمؤرخ مبارك الميلي، فإن الرأي العام السياسي والديني في الجزائر استغرب سحبهما من المعرض الدولي علماً أنهما من تأليف شخصيتين رمزيتين مهمتين في تاريخ الجزائر المعاصر، ويعتبران جزءاً عضوياً من نضال الحركة الوطنية الجزائرية بوجهيها الثقافي والديني.
ومن المعروف أيضاً أن “جمعية المسلمين” التي أسسها بن باديس ونشط فيها الميلي كانت سباقة فعلياً إلى التسامح الديني وإلى المطالبة بتطبيق “العلمانية” في الجزائر أثناء الحقبة الاستعمارية الفرنسية، ويشهد على ذلك المجلد الذي يتضمن مئات الصفحات، منها 90 صفحة مكرسة للدفاع عن أهمية فصل الدين الإسلامي عن الدولة بشكل عام، وعن الإدارة السياسية الفرنسية بشكل خاص. ولقد ألَف هذا المجلد رئيسها البشير الإبراهيمي خليفة بن باديس.
وفي الحقيقة، فإن الرقابة مشكل حقيقي في الجزائر حيث هناك حساسية مفرطة تجاه الرأي المخالف والوصاية على الفكر، ونجد هذه الظاهرة في مختلف وسائل الإعلام التابعة للدولة أو للقطاع الخاص، وفي ممارسات السلطات التي تشرف على مؤسسات طبع الكتاب وتوزيعه، كما نجد الكتّاب يراقبون بعضهم بعضاً أيضاً، ونصطدم كذلك بشبح الرقابة المستفحلة لدى ناشري الكتاب أنفسهم في القطاعين العام والخاص معاً، مع الأسف.