بقلم: صابر بليدي – العرب اللندنية
الشرق اليوم – وصف تقرير إعلامي زيارة وزير خارجية الولايات المتحدة أنتوني بلينكن، إلى شمال أفريقيا، بـ”المسح الأميركي”، كناية عن المهمة السريعة في المهلة القصيرة التي قضاها الرجل في عواصم المنطقة ومنها الجزائر، فست ساعات كانت كافية لنقل رؤية واشنطن إلى الحكومات، ثم الانصراف سريعا لأعماله، لتبقى الأنظار متوجهة إلى مواقف وردود فعلها، لاسيما وأن المسألة هي من قبيل “طلباتكم أوامر”.
وتلقى معارضون للسلطة، بحسرة كبيرة أن تقبل الحكومة على حملة إفراج عن معتقلين سياسيين من رموز الحراك الشعبي، فرغم “النضال والتضحيات وإضراب الجوع” التي بذلها هؤلاء، لم تتحرك إنسانية السلطة، إلا عندما جاء بلينكن وأوصى بضرورة اهتمام الحكومة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية، لأن ما يحز في النفس حسب هؤلاء، ألا يستمع الجزائري للجزائري، بينما تطاع أوامر الأميركان الذين أطلقوا سراح الجزائريين من الجزائريين.
سلوك السلطة الذي جاء دون سابق إنذار، كرّس منطق حصيلة الاستقواء بشرعية القوى الكبرى وحمايتها بدل الاحتماء بشرعية الشعب، فقد كان بإمكان السلطة أن تبادر بمحض إرادتها وتحتوي قضية المعتقلين السياسيين بدل أن تصر على نفي وجودهم تماما، ثم تقرر الإفراج عنهم بشكل مفاجئ تحت ضغط الآخرين، وبينهم وجوه كانت لأيام قليلة ماضية في خانة ألد خصومها.
ولا زال الجزائريون، يتذكرون تلك الصور التي أظهرت رئيس الدولة المؤقت الراحل عبدالقادر بن صالح، وهو يقدم تقريرا عن الوضع الداخلي لبلاده للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والآخر يبادله نظرات فيها الكثير من الرسائل والدلالات، وتجلّت حينها معاني استقواء السلطة بالخارج على الداخل، وبدل الاستماع لصوت الشعب ذهب مبعوثو الحكومة يمينا وشمالا متنقلين بين العواصم ومنها موسكو، لينقلوا إليهم كلاما حمل كل شيء إلا الحقيقة.
والآن جاء رئيس الدبلوماسية الأميركية، لينقل رؤية بلاده إلى حكومات المنطقة ومنها الجزائر، لإرساء قواعد دبلوماسية واستراتيجية جديدة، وإلا تحولت هذه الدول إلى بلدان مارقة إذا رفضت أو راوغت المنهج الذي تريده واشنطن للمنطقة، فما عسى تلك الحكومات أن تفعل؟ هل تنخرط في التيار أم تواصل في سياسة “ركوب الرأس”.
رسائل بلينكن إلى الجزائريين كانت واضحة وصريحة، وتم نقل تفاصيلها على موقع وزارة الخارجية، بما فيها مضمون الندوة الصحافية التي نظمها الرجل، ولا يمكن للقراءات والتأويلات الصادرة هنا وهناك أن تغفل الحقيقة التي جاء لأجلها، وهي تقليص التعاون مع الروس، وخفض التوتر في المنطقة المغاربية، وضمان تدفق الغاز إلى أوروبا، وهي مسائل كان يمكن تلافيها لو سادت دبلوماسية حكيمة، قبل أن تصبح “أمرا في ثوب رغبة”، تمس فيه كرامة وسيادة بلد، بات لا يرأف بأبنائه إلا تحت ضغوط الخارج.
صحيح الجزائر ورثت ثوابت دبلوماسية عن ماضيها الثوري والسياسي، لكن اللبس المتراكم على عدة أسس كقضية التاريخ والذاكرة، يحيل المتابعين إلى أن المسألة باتت تتعلق بسجلات تجارية تستغل لتصفية حسابات ظرفية أكثر منها مبادئ راسخة وثابتة كما كان في السابق، وإلا لما كان خطاب ما فوق الطاولة ليس هو نفسه الذي تحتها، والسر في ذلك أن السلطة التي تكتسب شرعيتها من العواصم بدل شعبها، لا يمكن لها الصمود أمام الضغوط، أو تبنّي أفكارها بكل حرية وسيادة.
والآن بات واضحا أن الدبلوماسية الحكيمة هي التي تستفيد وتوظف التغيرات والمتغيرات لصالحها، وأن الثبات من أجل الثبات حتى ولو كان مشبوها لا تجني منه إلا الغبار، ولعل أبرزها احتواء الأزمة السياسية الداخلية بدل انتظار تدخل الآخرين، خاصة وأن التجارب أثبتت أن أيّ أزمة يتم احتواؤها ذاتيا تنتهي بالبلاد إلى بر الأمان، وكل أزمة تنتظر حلولا خارجية تنتهي في الغالب إلى أزمات أخرى.
وكان من الحكمة، مهما كانت المسارات التي انتهى إليها تنحي الرئيس الراحل، الاستماع إلى صوت الشارع ومطالبه، بدل الاحتكام إلى قبضة حديدية، وكان من الحكمة أيضا عدم وضع البيض كله في سلة واحدة وإلا أصبح أصحابها رهائن لدى هؤلاء، وحتى أنبوب الغاز المغاربي كان يمكن أن يكون شعرة معاوية بدل قطعه تماما.
الكثير من المآخذ سجلت على الدبلوماسية الجزائرية في السنوات الأخيرة، وتعتبر رسالة وزير خارجية الولايات المتحدة خارطة طريق جديدة، يمكن إدارتها بحكمة وذكاء والاستفادة من مزاياها، بمراجعة العديد من المسائل بدل الثبات على الثابت، فأزمة الطاقة التي يعرفها العالم قد تزيح آخر ستائر السيادة على الثروات، إذا لم تحسن الجزائر كمنتج التعاطي مع التجاذبات والتوازنات الإقليمية والدولية.
لقد أظهرت الأزمة الأوكرانية مدى الاختلالات الاستراتيجية التي يعاني منها العديد من الدول التي انتهجت خطا سياسيا شوفينيا أكثر من كونه خطأ حكيما وبراغماتيا، خاصة فيما يتعلق بترتيب الأولويات، وبرزت أهمية الأمن بكل أشكاله في تحقيق استقرار الشعوب ووحدتها، حيث لم يعد مجرد آليات أمنية وعسكرية ومحتوى أيديولوجي، بل تعداه إلى الغذاء والدواء والتعليم والصحة والثقافة والفنون.. وغيرها.
خلال القرن التاسع عشر كانت الجزائر سلة غذاء أوروبا وفرنسا، وهي الآن تستورد القمح من لاتفيا (مساحة محافظة جزائرية)، وهو ما يعكس حجم سوء التقدير الذي ميز سياسات السلطات الحاكمة بداية من الاستقلال إلى الآن، وهذا نموذج واحد من نماذج السيادة والاستقلال والوحدة الحقيقية للبلاد، بدل الانغماس في خيارات سياسية وأيديولوجية أثبت الزمن قصورها وفشلها حتى في الحفاظ على نفسها.
الوسومالجزائر الشرق اليوم بلينكن خارطة طريق بلينكن.. التغير والثبات الجزائري
شاهد أيضاً
أوكرانيا
العربية- عبدالمنعم سعيد الشرق اليوم– فى العادة فإن الاستدلال عن سياسات إدارة جديدة يأتى من …