بقلم: ريتشارد هاس
الشرق اليوم- مضى شهر ونيف على حرب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ضد أوكرانيا، والواقع أن هناك حربين: حربا روسية تُشن بالأساس ضد مدن أوكرانيا والسكان المدنيين، وحربا تخوضها القوات المسلحة الأوكرانية ضد القوات الروسية، وروسيا هي المنتصرة في الحرب الأولى، في حين أوكرانيا هي الفائزة في الحرب الثانية.
ومن الناحية المثلى، ستؤدي المفاوضات إلى وقف إطلاق النار وتسوية دائمة، ولا يقل ترجيحا أن يستمر الصراع لبعض الوقت، خصوصا إذا قرر بوتين اعتماد استراتيجية تقلل من تعرض قواته للقتال ورفض نتيجة تفاوضية بشروط يمكن أن تقبلها حكومة أوكرانيا، وستكون النتيجة “حرب محدودة لا السلام”، على حد تعبير “تروتسكي”.
فمن سيكون الرابح والخاسر في هذا السيناريو؟
من السهل الإشارة إلى الخاسر الأكبر، وهو روسيا، إذ يبدو واضحا، الآن، أن بوتين لن يكون قادرا على تحقيق الأهداف السياسية التي على الأرجح أنه سعى إليها، وهي السير إلى كييف واستبدال حكومة الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، بحكومة صديقة للكرملين، وربما تكون الحرب التي اختارها بوتين قد دمرت الكثير من البنية التحتية في أوكرانيا، لكن العقوبات غير المسبوقة والعزلة الاقتصادية التي أحدثها قراره تدمر روسيا اقتصاديا. وفضلا عن ذلك،غادرت العديد من المواهب الروسية البلاد تعبيرا عن رفضها للحرب، واستُنزف الجيش الروسي (إذ فقد ما يصل إلى 15000 جندي في شهر واحد)، فتراجع كما تراجعت قوات “بوتيمكين”، تلك التي ستستغرق سنوات لإعادة بنائها. ويصبح التقييم أكثر تعقيدا عندما يتعلق الأمر بأوكرانيا، فصمود قيادتها ومجتمعها وقواتها المسلحة إنجاز رائع؛ كما أن الهوية الوطنية أصبحت أقوى من أي وقت مضى؛ وعززت المقاومة القوية التي أبدتها أوكرانيا ديموقراطيتها الفتية. ولكن هذا التعزيز كلف باهظا، إذ يقدر أن عشرة ملايين أوكراني، أي ربع السكان البلاد، مشردون في بلادهم أو لاجئون؛ ودُمر الاقتصاد؛ وستستغرق عملية إعادة البناء الكثير من الوقت والمال.
ويعتبر الناتو، على الرغم من عدم اختباره عسكريا، فائزا كبيرا حتى الآن، إذ أصبح أكثر اتحادا وأكثر قوة جراء العدوان الروسي، كما أنه يستفيد من الأداء الضعيف للقوات المسلحة الروسية التي لا تضاهي الحلف الغربي، ومن رئيس أميركي يؤمن بها.
إن ألمانيا وحكومتها الجديدة ومستشارها من أكبر الفائزين أيضا، ويُفهم من ضمن رد حكومة المستشار، أولاف شولتس، أن إرث سلف شولز، أنجيلا ميركل، أصبح الآن أكثر اختلاطا، لأنها سمحت لألمانيا بأن تصبح شديدة الاعتماد على الطاقة الروسية.
ويمثل قرار شولتس إلغاء خط أنابيب الغاز “نورد ستريم2″، والالتزام بمضاعفة الإنفاق الدفاعي، والاستعداد لنقل الأسلحة إلى أوكرانيا تغييرات كبيرة ومهمة، وخيبة الأمل الوحيدة هي أن الاقتصاد الألماني سيستغرق سنوات لفطم نفسه عن الغاز الروسي، وهو واقع يشكل ثقلا كبيرا على الاقتصاد الروسي.
وبدوره، حقق الرئيس الأمريكي، جو بايدن، مكاسب من الحرب، فقد كان في معظم الأوقات ماهرا في إدارة سياسة دعم أوكرانيا، ومعاقبة روسيا؛ وبرفضه الدعوات لإرساله “جنودا إلى ساحة المحركة” أو إنشاء منطقة حظر طيران، فقد تولى تلك المهمة دون المخاطرة باندلاع الحرب العالمية الثالثة. ووحد بايدن بين حلفاء أميركا أيضا، وهو أمر تمس الحاجة إليه بعد أربع سنوات من إدارة دونالد ترامب، وبعد الانسحاب الأميركي السيئ من أفغانستان. وكانت إحدى زلاته الرئيسة هي محاصرة بوتين بصورة أكبر من خلال وصفه بمجرم حرب، والتلميح إلى تغيير النظام عندما يجب أن يكون هدف السياسة الأمريكية هو حمل بوتين على وقف الحرب، وتجنب أي تصعيد من أي نوع.
إن الصين ورئيسها، شي جين بينغ، في وضع استراتيجي أسوأ مما كانا عليه قبل شهر واحد فقط، إذ بسبب الارتباط الوثيق مع بوتين، عرّض شي نفسه للنقد بسبب حكم معيب يضر بسمعة الصين، ويزيد مخاطر استهدافها بعقوبات ثانوية.
ورغم أن الصين طالما سعت إلى تقسيم الغرب، فإن تحالفها مع روسيا أدى إلى عكس ذلك، مما أدى إلى تنفير أوروبا الغربية حيث كانت تحقق نجاحات اقتصادية كبيرة، كما أنه سيؤدي إلى سياسة أميركية أكثر صرامة تجاه الصين، وإلى تسليط الضوء على التكاليف التي يمكن أن تواجهها الصين إذا تحركت عسكريا ضد تايوان.
وبالمقابل، الخاسرون في هذه الحرب أكثر بكثير من الفائزين، وهذا مفيد للحرب، وتبدو الأمم المتحدة، وخصوصا مجلس الأمن، عاجزة عن التدخل. فالحرب ضارة بالجهود العالمية الرامية لإبطاء انتشار الأسلحة النووية، فقد تخلت أوكرانيا عن مخزونها منذ 28 عاما في مقابل ضمان سلامتها الإقليمية، إلا أنها تعرضت للغزو مرتين منذ عام 2014، كذلك أثرت الأزمة سلبا على الجهود المبذولة لمكافحة تغير المناخ، والتي يبدو أنها تراجعت مؤقتا، على الأقل فيما يتعلق بالتدابير التي ترمي إلى تعزيز أمن الطاقة. وتشكل الحرب أزمة سيئة أيضا بالنسبة لمن كان يجادل بأن غزو الأراضي والحروب بين البلدان أصبحت من الماضي، أو من جادل في السنوات الأخيرة بأن الأمور لم تكن أبدا أفضل من أي وقت مضى، واستُخدمت الأحداث أيضا ضد حجج اليساريين واليمييين التي تقول إن الخطر الأكبر على الأمن الدولي هو تجاوز الولايات المتحدة، وإن الولايات المتحدة ستكون أكثر أمانا إن اهتمت بشؤونها الداخلية.
أخيرا وليس آخرا، هناك مسألة ماذا سيعني هذا الصراع بالنسبة للنظام العالمي؟ لقد انتهك الغزو الروسي المبدأ الأساسي للاستقرار في العالم، وهو ألا يتم تغيير الحدود بالتهديد أو باستخدام القوة، وسيتوقف الكثير على ما إذا كان بوتين يفلت من مقامرته، أو ما إذا كان الثمن الذي يجبر على دفعه يفوق مكاسب معينة، وسيحدد هذا، أكثر من أي شيء آخر، الحكم النهائي للتاريخ فيما يتعلق بمكاسب وخسائر حرب بوتين.