بقلم: محمود حسونة – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- من السهل إشعال حرب، ولكن من الصعب إطفاؤها، وعلى مدار التاريخ كان إطلاق الحرب قرار شخص أو مجموعة أشخاص، ولكن إطفاء الحرب غالباً ما لا يكون قرار ذات الشخص أو الأشخاص، فخلالها تدخل عناصر وعوامل متعددة تتحكم في مسارها، ليصبح من أطلقها أكثر الناس عجزاً بشأن مصيرها. وتعد الحرب الروسية على أوكرانيا من الحروب التي تحمل كل يوم مفاجأة تشغل بال المحللين وتهدد بتغيير ملامح الكوكب، ومفاجآت هذه الحرب لن تتوقف في اليوم غير المنظور الذي سيتوقف فيه إطلاق النار، ولكنها ستستمر مصدراً للمفاجآت المزعجة لسنوات وعقود مقبلة.
عندما أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحرب، كان يتوقعها حرب الأيام المعدودة التي سيدخل خلالها جيش بلاده أوكرانيا لنزع سلاحها وإبعاد شبح الناتو عن حدود بلاده حفاظاً على أمنه القومي واستبدال النظام الحاكم هناك بنظام موالٍ لروسيا، يكون حارساً لأمنها وأمانها وليس مصدر إزعاج لها، ولكنه فوجئ ومعه العالم بأن الأيام المعدودة تجاوزت الشهر، وأن أوكرانيا مصرّة على مواصلة القتال رغم أن أعداد اللاجئين والنازحين أصبحت مليونية وتزيد يوماً بعد يوم بمئات الآلاف.
أوكرانيا تعجز عن قول كفى، والسبب أنها لا تملك قرارها، ولو قررت روسيا الانسحاب، سيعتبر العالم ذلك هزيمة لدولة كانت عظمى وتحاول استعادة “عظمتها”، ولإمبراطورية كان الجميع يعمل لها ألف حساب، وفجأة وجدت نفسها خارج حسابات القوى المنافسة.
دخلت روسيا الحرب ضد أوكرانيا، وفوجئت بنفسها تحارب الولايات المتحدة والغرب ومن تبعهما. الكل يحاربها اقتصادياً وإليكترونياً ودبلوماسياً وعسكرياً بعد أن تدفقت على كييف الأسلحة والعتاد العسكري من أمريكا ومعظم دول الغرب، وكأن الهدف إطالة أمد هذه الحرب المدمرة قدر الإمكان.
قبل الحرب، كانت روسيا تحشد جنودها وعتادها على الحدود الأوكرانية، وأمريكا تحذر وتتوقع اندلاع الحرب في أي لحظة، وأوكرانيا تضع يدها في ماء بارد، وبعد الضربة الأولى توقع الرئيس الأوكراني زيلينسكي أن تتوافد جحافل الناتو على بلاده لطرد “المعتدي”، ولكنه فوجئ بهم يتركونه لمواجهة مصيره وحيداً، طالبَ وصرخَ واستجدى ولسان حال جميعهم يقول له “إنها معركتك وحدك ولن ندخل في مواجهة مع الدب الروسي لأجلك خشية أن تتطاير شرارات غضبه علينا وتحرقنا”.
أحد أهم أهداف روسيا من الحرب إزاحة الرئيس الأوكراني ومعاونيه من الحكم واستبدالهم بنظام موالٍ، وكانوا ينظرون إلى زيلينسكي باعتباره مجرد ممثل كوميدي مهرج لن يحتاج لإزاحته سوى ساعات، وكانت المفاجأة أن مخابراتهم عجزت عن اصطياد هذا الممثل، ونجح في أن يدير المعركة عبر كاميرا الهاتف من أماكن مجهولة، واستطاع بإمكانياته المحدودة بث روح الأمل لدى جنود جيشه، وأن يدعو الأوكرانيين للصمود، مستغلاً الأحقاد التاريخية بين العرقيتين الروسية والأوكرانية، وبدلاً من أن تزيح روسيا زيلينسكي، وضعت أمريكا على أجندتها هدف ازاحة بوتين بعد أن طالبه الرئيس بايدن خلال خطابه في بولندا بالتنحي، وهو الأمر الذي يكشف النوايا الأمريكية المستقبلية، رغم نفي البيت الأبيض لذلك، ومحاولة تصوير تصريحات بايدن على أنها زلة لسان، وهي اليقين الراسخ في وجدان وعقل الإدارة الأمريكية.
التكالب الغربي على فرض عقوبات على روسيا والعمل بكل السبل على انهيار الاقتصاد والعملة الروسية قد ينقلب نقمة على الدولار الأمريكي، بعد أن قرر بوتين عدم تصدير النفط والغاز الروسي إلا بالروبل، ليزيح الدولار عن عرش التجارة العالمية، ويهز مكانته عالمياً، ولو سارت الصين والدول المؤيدة لروسيا على هذا النهج، فسوف يكون ذلك بداية النهاية لعصر الدولار.
من مفاجآت الحرب الآنية، والتي ستُلقي بظلالها على العلاقات الروسية الأمريكية لما بعد الحرب، الانحدار اللفظي والسباب الذي لا يتناسب مع مكانة الدولتين، حيث وصف الرئيس بايدن نظيره الروسي بألفاظ قاسية لا تُطلق سوى على الأعداء، مثل “مجرم حرب” و”ديكتاتور قاتل” و”جزار”، وهي ألفاظ تصعّد ولا تهدّئ، تشعل ولا تطفئ، تفسد ولا تصلح، ولا شك أنها رفعت من غضب الدب الروسي الغاضب أصلاً من أمريكا منذ سقوط الاتحاد السوفييتي.
مفاجآت الحرب كثيرة، وهذا مجرد غيض من فيض، وكل ما نخشاه أن نلقى منها مفاجآت أكثر رعباً وتهديداً لأمن واستقرار العالم غير المستقر.