بقلم: راغب جابر – النهار العربي
الشرق اليوم – الغرب يغلي على نار الحرب الأوكرانية. المنطقة العربية تغلي من المحيط إلى الخليج، هي والإقليم القريب. العالم كله يغلي ولن يبقى شيء كما كان قبل الحرب.
مع كل يوم يمضي تكشف الحرب عن بعض أسرارها التي سيمضي وقت طويل قبل أن تُكشف كلها. الوقائع على الأرض تعطي مؤشرات بالغة الأهمية إلى ما قد يكونه العالم بعد نهاية هذه الحرب، إذا انتهت والعالم ما زال عالماً.
أياً تكن نتيجة الحرب على الأرض، سواء انتصر الروس أم الغرب، بقيت أوكرانيا أوكرانيا أم أصبحت شيئاً آخر، هناك نظام عالمي جديد يتشكل، سيتحدد وجهه النهائي عندما ينجلي غبار المعارك الدائرة حول المدن الأوكرانية المسحوقة تحت وابل الصواريخ والقذائف الروسية.
يغلي العالم ويطير زعماؤه من بلد إلى بلد في حركتين تبدوان متعارضتين تماماً: الأولى السعي إلى اتفاقات سلمية توقف الحرب وتمنع تمددها وتداعياتها على العالم أجمع، بأقويائه وضعفائه، والثانية حشد أكبر قدر من السلاح والعسكر لزجهما في الحرب التي ستكون الغلبة فيها للأقوى سلاحاً والأكثر قدرة على التحمل والصمود اقتصادياً.
المنطقة العربية البعيدة نسبياً جغرافياً من ساحة الحرب الدائرة في أوروبا، ليست بعيدة بالفعل. قدر هذه المنطقة هو موقعها الجغرافي وتعدديتها الدينية والإتنية وثروتها النفطية والصراعات الدائرة فيها وعليها وحواليها. هي منطقة ثورات وصراعات وحروب لا تنتهي، وساحة تجارب لكل القوى المتناحرة في العالم.
حرب أوكرانيا والمشهد الدولي الحالي والمتوقع بعدها يدفعان المنطقة إلى الواجهة بقوة في ظل أزمتين مترابطتين: أزمة النفط العالمية نتيجة العقوبات المفروضة على روسيا، أكبر منتج عالمي للغاز الذي يغذي أوروبا، وأزمة نووي إيران وصواريخها وأذرعها في العالم العربي. أميركا والغرب يريدان نفط العرب أداة في الحرب الاقتصادية على روسيا، عبر ضخ كميات إضافية تسد الحاجة إلى النفط والغاز الروسيين، هكذا ومن دون أي مقابل. تتصرف أميركا مع العرب بمنطق قديم يستبطن الكثير من التعالي والتجاهل والإهمال، معتمدة أسلوب التناسي والوعود الملتبسة التي ما تلبث أن تنكث بها.
لكن أميركا جو بايدن ليست أميركا “العظمى”، وجو بايدن ليس روزفلت في الحرب العالمية الثانية. لم يكن حدثاً بسيطاً أن يرفض مسؤولون كبار في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة الرد على اتصال بايدن بهم بعدما تجاهل مطالبهما في مفاوضات الاتفاق النووي مع إيران. البلدان أبلغا أميركا رسالة واضحة بأن نفطهما ملكهما، وهما وحدهما تقرران كيفية استخدامه والاستفادة من مفاعيله الاستراتيجية.
وهل كان أحد يتخيل أن تخذل إسرائيل ربيبتها ومربيتها ومتبنيتها ومسلحتها أميركا، فتتجنب إعلان الوقوف إلى جانبها ضد روسيا؟
المنطقة أمام مخاض صعب، ومستقبلها ينتظر مآلات الحرب والاتفاقات التي ستنتج منها والمحاصصات الدولية والإقليمية، لكن الواضح أن صورة ما تُرسم وتتبلور للمنطقة، وهي تسابق الزمن كي لا يكون العرب ضحية حروب العالم مرة جديدة، بعد تفتيتهم على إثر الحرب العالمية الأولى وتكريس الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بعد الحرب العالمية الثانية.
سيقوم توازن قوى جديد في العالم بعد الحرب الأوكرانية، توازن يقوم على التكنولوجيا والنفط (إلى أجل ليس ببعيد) والقمح والسلاح وطرق التجارة، والقوي هو من يعرف كيف يستخدم إمكاناته بالطريقة الأمثل.
ما كشفته الحرب حتى الآن هو ما يتعلق بالسلاح. هذا ميدان يفاجئ العالم بمتحولاته التي ستغير وجه الجيوش قريباً جداً. حرب أوكرانيا تسقط النظريات الحربية التقليدية وأدواتها. هذه حرب تكاد تعلن نهاية عصر الدبابة التي أصبحت مجرد كتلة من حديد يصطادها جندي مزود بصاروخ يحمل على الكتف، أياً كانت درجة حمايتها. هذا ما حصل للدبابات الروسية التي عجزت عن اقتحام أي مدينة أوكرانية مزوّدة بصواريخ مضادة للدروع. الطائرات المقاتلة التقليدية التي تكلف ثروات طائلة لتصنيعها لم تعد سيدة الأجواء، الطائرة المسيّرة أصبحت نجمة الحرب في أوكرانيا، وهي ستكون نجمة جيوش العالم لاحقاً.
الحروب المقبلة ستكون صورة عن تمثيلات التكنولوجيا الفائقة الذكاء. سيكون كل شيء صغيراً. الطائرة والمدفع والصاروخ. أسلحة تُحمل على الأكتاف وقنابل لا تُرى ومقذوفات أسرع من الصوت بمرات. لن تكون هناك حاجة للشاحنات الضخمة تحمل صواريخ هائلة الحجم مرعبة بما يمكن أن تحمله في جوفها من نار وحرارة. حروب المستقبل ستكون بالريموت كونترول. وستكون دول تملك بضعة علماء متميزين في مجال التكولوجيا قادرة على إنتاج أسلحة عصرية كما فعلت تركيا بإنتاج طائرة “بيرقدار” التي كان لها تأثير حاسم في حرب أذربيجان – أرمينيا، وحتى الآن في حرب أوكرانيا. حروب المستقبل ستكون أكثر تدميراً، لأنها ستكون حروباً بلا جنود على الأرض، هؤلاء لن يتدخلوا إلا بعد أن تكون المدن قد سُوّيت بالأرض. هذا ما يحدث شيء منه في أوكرانيا التي تقصف مدنها من بعيد فلا يبقى فيها مخبّر.